عن أهوال حرب غزة: حوار عادي… ربّما!

2024-03-10

نسب أديب حسين

بعد قطع الحاجز من القدس نحو رام الله، والاقتراب أكثر من بيتها، تكاثف حديثها عن لقاء ووقت جميل قضته مع عائلتها هناك، حين التقينا لأول مرّة قبل أربعة أشهر، في تقديم العزاء، والاطمئنان عليها، في ظلّ غياب زوجها وابنها الأصغر.. أخبرتني حينها عن آخر لقاء بعائلتها في غزة، آب/أغسطس الماضي، وكيف حجزت «شاليه» على البحر ليجتمعوا سوية.. أيّ وقت جميل قضوه معا، ثم أضافت بابتسامة ونظرة ساهمة: والله بتجنن غزة، فش شاليهات هون، زي اللي كانوا هناك.. بتعرفي والله غير أورجيك عليه.

أخرجت هاتفها وراحت تبحث عن صور ومقاطع فيديو، لتريني إياهم مجتمعين: عائلتها وعائلة شقيقتها الوحيدة ووالديهما، في فيلا على شاطئ البحر.. أثارت إعجابي بشدة، وفرحي وحزني في آن واحد، بينما كنت أتأمل صور شقيقتها وأبنائها، وتبتسم هي لجمال ابنة شقيقتها، التي تخرجت من كلية الفنون، ثم تهمس: «يا ويلي عليها…».

ربّما لو نظر غريب إلى هذه الصور ولم يعرف من أيّ رقعة في الأرض أصحابها، لما خالجه شك في أنّ كل شيء ما يزال على ما يرام، وأن الناس يستمرون في حياة الطبيعية، فالمرأة الحامل أنجبت، والزوج ووالداه سعيدون بالمولود، والشابة الجامعية، التي على وشك التخرج، قد بدأت العمل… لكن لا شيء مضمون أو متوقع في غزة…

عندما ذهب زوجها عاطف يرافقه ابنهما الأصغر ياسر لزيارة أهله في الخامس من تشرين أول/أكتوبر الماضي، أبلغته هناء أنّها ترغب في أن تزور قريبا شقيقتها الوحيدة وتهنئتها، فابنة شقيقتها المدللة وسام، تخرّجها في اليوم التالي، وابن شقيقتها مصطفى قد رُزق بطفله الأول، وتريد أن تطمئن على والديها العجوزين، فاتفقا أن يعود بعد يومين، أو في الأسبوع التالي، كي ترافقه إلى هناك.

لكن ما كاد ينقضي يومان، على غيابه، حتى اندلعت الحرب. ومع مرور الأسبوع الأول منها أدركت هناء، أنّ الحرب حتى لو وضعت أوزارها خلال أسبوع، فتلك الصور الجميلة من اجتماعهم العائلي في الصيف، قد أصبحت جزءا من ذاكرة لن تعود.

أركن السيارة أمام المبنى، أدخل البناية، وأنا أفكر هل من كلمات مناسبة للفقد الجديد؟ ففقد الأم لا يشابهه أيّ فقد. عند الباب استقبلني ابنها الأوسط نعيم، وحين تأتي هناء أقول لها: لا أعرف إن كانت لدى كلمات تعزيك، أتمنى أن يقدّرك الله على الصبر.

ثم حين يحضر الدكتور عاطف لاستقبالي، قبل الانصراف إلى موعد آخر، أقول لنفسي إن نجاته هو وياسر جزء كبير من العزاء لها. وقد كانت نجاتهما في حدّ ذاتها معجزة.. كنت بالكاد أصدق كلماتي، حينما حاولتُ مواساتها خلال غيابهما.. قلت إنّهما، إن شاء الله، سيعودان إلى البيت، وسيطمئن قلبها عليهما.. قلت إنهما سينجوان وسيكونان بخير. وكانت أمي أمام قلقي عليه وعلى الأًصدقاء الآخرين في القطاع تردد: «اللي كاتب له الله عمر، ما بتوخذه شدة».. فالحمد لله أنّ الله كان معهما وأنقذهما.

بعد عودته أبلغني الدكتور عاطف أبو سيف، أنّه أصرّ على اصطحاب والديّ زوجته معه من مخيم جباليا إلى الجنوب، إلى خيمة في رفح. ووقتها ابتسمت وهناء وقالت: منيح اللي اقتنع أبوي ورضي ينزلوا معاه.. تخيّلي انقصف بيت أهلي بعد يومين من طلعتهم منه! كانوا راحوا أبوي وأمي… نجا الوالدان من قصف البيت وقتها، لكن هل القصف وحده من يقتل في غزة؟ وقد اشتدت المعركة مع الجوع. قالت حينها: سألت أبي اليوم ماذا أكلت؟ فأبلغني: علبة سردين، كويس…

الآن بعد مرور هذا الوقت، بعد نحو خمسة أشهر من بداية الحرب، أصبحت معركة الأم السبعينية المقعدة أشدّ وأصعب.. لم يحتمل جسدها ظروف العيش في خيمة، وسط شحّ كل أساسيات الحياة، ورغم توقعاتي للأسباب، سألت هناء: ماذا حصل؟

ـ أنت عارفة أمي مريضة وتعبت، ولازمها مستشفى، وفش مستشفيات، يعني هالمستشفى اللي عم بشتغل بطل يستقبل والمصابين مش قادرين يعالجوهن وفش دوا. خالي دكتور بريت البلاد حاول يحكيلهم شو يعملوا… بس على الوضع الموجود، وفش دوا.. فعلى الفاضي.. ماتت…

هززتُ رأسي، وتمنيتُ أن يمنحها الله الصبر، ثمّ سألتها عن ابنة شقيقتها فقالت إنّها أفضل قليلا، توقفوا حاليا في المشفى المصري عن منحها المسكنات، كي لا تدمن عليها، ويحاولون إعادة تأهيلها…

حضر الأبناء للسلام عليّ ولكي أعزيهم، وهي تقول لهم نادوا ياسر، ثمّ أبلغتني: «ياسر كثير متأثر لأنّه كان معها آخر اشي، وهو اللي نزّلها من الشمال». لم أكن قد سألتُ الدكتور عاطف كيف كانت الطريق من شمال القطاع إلى جنوبه، وكيف تمكنوا من نقل والدة هناء المُقعدة. هذه المرّة أجابتني: دفعها ياسر على الكرسي المتحرك.

وسط محاولة تخيّلي للطريق بكل ما وصلنا من مشاهد، والمعاناة في نقل الجدّة كلّ تلك المسافة.. حضر مجموعة من الشبان من رفاق أولادها لتعزيتها، وشاركونا جلستنا، عرّف أحدهم نفسه، قال إنّه من رفح، وإنه يسكن برفقة والديه في رام الله، بينما باقي إخوته كانوا في غزة. سألته هناء عن عائلته هناك، قال إنّ إخوته قرروا الخروج بعد استشهاد ابنتي أخيه.

تمنينا لهما الرحمة.. سألتْه هناء: اندفنوا؟

ـ ااه.. دفنوهم

ـ أنا أختي وزوجها وأولادهم الاثنين وحفيدهم وكنتهم استشهدوا، وأختي وزوجها وابنها مصطفى بعدهم من أول أسبوع بالحرب تحت الأنقاض.

قال الشاب: احنا دفنّاهم، بس الله أعلم إذا بعدهم بالقبور، ولا نبشوهن…

شعرتُ بتساؤله يصيبني بالدوّار، أيّ جنون وأيّ تساؤلات تُطرح؟ من جهة هي تساؤلات واقعية، بحكم ما يحصل، لكن أليست تساؤلات جنونية؟ فهل صرنا نتعامل مع هذه الأسئلة بصورة طبيعية؟

سألته وأنا أتخيل طفلتين في عمر الورد: كم كان عمر بنات أخيك؟

قال: وحدة سنة أولى جامعة ووحدة صف عاشر.

كأنّ سوطا لسع قلبي، وسط تخيّل شابتين بدأ المستقبل يفتح ذراعيه أمامهما، وبعد تعب والديهما، ترحلان، وهما تنتظران شحن هواتفهما.

قالت هناء: بنت أختي وسام اللي كانت في البيت وقت القصف نجيت، بس… راحوا رجليها الثنتين وايدها…

قال الشاب إنّ باقي إخوته غادروا، بعد استشهاد البنتين، إلى مصر إذ لديهم جوازات سفر مصرية، وأنّهم وسط ما يحصل، يحمدون الله أنّ حالهم أفضل من غيرهم.

وبعد حديث مطول عن الحرب الكبرى في القطاع، والحروب الصغيرة هنا في الضفة والقدس، وتأثيرها على الداخل الفلسطيني، غادرت. وبقيت كلمات هناء تتردد في ذهني إذ

قالت: بتعرفي لما أفكر بأختي وإنها راحت بأول أسبوع بالحرب بعزّي حالي، وبقول يمكن حكمة ربنا، أنها ما عاشت الترحيل وقصة قطع وادي غزة، والشحشطة والجوع الموجود هلأ.. مش عارفة بقول على الأقل ما تعذبت كثير… شو ظل بغزة؟

وشرد ذهنها، ربما تستعيد ذاكرة الطفولة مع والدتها وشقيقتها الراحلتين، ثمّ وجه والدها العجوز في خيمة في رفح…

وأضافت: بسأل حالي.. الصغار كيف راح يعيشوا بعد الحرب؟ هذول ما راح ينسوا…

كاتبة فلسطينية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي