ما هي مؤشرات تلك الهزيمة؟.. وزير دفاع أمريكا يحذر إسرائيل من “هزيمة استراتيجية” في غزة

الأمة برس - متابعات
2023-12-04

وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن (ا ف ب)

يرى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن إسرائيل تتجه نحو "هزيمة استراتيجية" في غزة، فما مؤشرات هذه الهزيمة؟ ولماذا جاء هذا التحذير من الهزيمة بعد فوات الأوان؟

في حديث له الأحد 3 ديسمبر/كانون الأول، حذر أوستن إسرائيل، التي توفر لها إدارة الرئيس جو بايدن دعماً عسكرياً وسياسياً ومالياً غير مسبوق، من أن "المدنيين في قطاع غزة هم مركز الجاذبية، وإذا ما تم دفعهم نحو أحضان العدو، فإنك تستبدل نصراً تكتيكياً بهزيمة استراتيجية"، بحسب ما ورد في تقرير لموقع Axios الإخباري الأمريكي.

تأتي هذه التصريحات من جانب وزير الدفاع، بينما يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه الهمجي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو العدوان الذي تخللته هدنة لمدة أسبوع لتبادل الأسرى مع حركة حماس، كسرها جيش الاحتلال صباح الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول واستأنف عدوانه على القطاع.

ماذا تعني "الهزيمة الاستراتيجية" في غزة؟

يتم شن الحروب لتحقيق أهداف. هذه هي القاعدة التي لا خلاف عليها. وفي هذا السياق، كانت الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، والتي يترأسها بنيامين نتنياهو،  قد أعلنت منذ عملية "طوفان الأقصى"، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة هو الهدف الرئيسي، واجتاح جيشها القطاع برياً لتنفيذ هذا الهدف.

و"طوفان الأقصى" هو الاسم الذي أطلقته حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على عمليتها العسكرية الشاملة ضد جيش الاحتلال الذي يفرض حصاراً خانقاً على القطاع منذ 17 عاماً. ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي لفلسطين في ذلك اليوم، شنّت "حماس" اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصَر، حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، بعد أن اخترقوا الجدار الحديدي وسحقوا فرقة غزة التابعة لجيش الاحتلال، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.

ووسط حالة الذعر والصدمة التي انتابت الإسرائيليين، وانتشار مقاطع فيديو وصور لدبابات ومدرعات تابعة لجيش الاحتلال، إما محروقة وإما تحت سيطرة المقاومين الفلسطينيين، وأسْر العشرات من جنود جيش الاحتلال والمستوطنين، وسيطرة فلسطينية كاملة على مستوطنات، أعلنت دولة الاحتلال أنها "في حالة حرب"، للمرة الأولى منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو اعتراف بأن هجوم المقاومة الفلسطينية هو هجوم عسكري.

طوفان الأقصى لم تحدث من فراغ، وهي الحقيقة التي ليست محل جدال ويقر بها حتى الإعلام الغربي الموالي تماماً لإسرائيل والمتبني لروايتها، لكن نتنياهو وحكومته، التي يصفها الفلسطينيون بأنها فاشية وتسعى لإبادتهم بشكل جماعي، أرادت منذ اللحظة الأولى أن تداري على فشلها الأمني والعسكري الذريع في ذلك اليوم من خلال رفع سقف أهدافها من العدوان على غزة بصورة وصفها مراقبون بأنها "خيالية" وبعد مرور شهرين من هذا العدوان بدأ ذلك الوصف يتأكد على أرض الواقع.

الموقف الأمريكي من العدوان على غزة كان واضحاً تماماً منذ اللحظة الأولى وهو موقف متماهٍ تماماً مع موقف حكومة نتنياهو، وأقدمت إدارة بايدن على ما يصفه الفلسطينيون بأنه "مشاركة فعالة" في العدوان على قطاع غزة، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون فلسطيني. جاء بايدن وأوستن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن لزيارة إسرائيل تعبيرا عن الدعم المطلق، وشاركوا في اجتماعات قيادة الحرب في تل أبيب، كما أرسلت واشنطن حاملات طائرات وغواصة نووية إلى المنطقة وأطلقت جسراً جوياً لنقل العتاد العسكري، والقوات أيضا بحسب تقارير أمريكية، للمشاركة الفعالة في العدوان على غزة.

وفي هذا الإطار، لابد وأن تصريحات أوستن بشأن احتمال تعرض إسرائيل لهزيمة استراتيجية تثير الدهشة على أقل تقدير. فالهزيمة الاستراتيجية هنا ستلحق بأمريكا أيضاً. لكن من المهم توضيح ما يقصده أوستن بالهزيمة الاستراتيجية في غزة. يرى وزير الدفاع الأمريكي أن سكان غزة هم "مركز الجاذبية" في هذه الحرب، وإن كان وصف العدوان أكثر دقة بطبيعة الحال لأن ما يحدث ليس حرباً بين جيشين وإنما عدوان من جيش محتل على شعب مقاوم.

وما يقصده أوستن بمركز الجاذبية هو "الهدف الرئيسي"، والهدف الرئيسي هنا هو إقناع سكان القطاع بأن حركة حماس، التي تحكم غزة، هي المسؤولة عن الدمار والقتل الذي يعانون منه فيثورون على حكم حماس ويطالبون بإنهائه. ومن هذا المنطلق يرى وزير الدفاع الأمريكي أنه إذا واصلت إسرائيل عدوانها بالطريقة ذاتها، التي تتسبب في فقدان آلاف المدنيين أرواحهم وممتلكاتهم، لن يتحقق الهدف وهكذا تقع إسرائيل في فخ "الهزيمة الاستراتيجية".

هل هزمت إسرائيل استراتيجياً في غزة إذاً؟

بالتأكيد. فتصريحات وزير الدفاع الأمريكي هذه تعتبر إقراراً بما حدث فعلاً وليس ما يحتمل أن يحدث، بحساب الخسائر البشرية والمادية التي لحقت بالمدنيين في القطاع وذلك في المرحلة الأولى من العدوان، والتي انتهت بإعلان هدنة تبادل الأسرى صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني.

إذ استشهد ما يقرب من 14 ألف شهيد، أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، كما أصيب أكثر من 30 ألفاً، هذا بخلاف المفقودين تحت الأنقاض وهم بالالاف أيضاً، بينما تم محو أحياء بأكملها في غزة وتضررت أكثر من 60% من مباني القطاع سواء بشكل كلي أو جزئي ونزح أكثر من 1.8 مليون فلسطيني من بيوتهم، لتوصف هذه الخسائر بأنها الأسوأ على الإطلاق بالنسبة للمدنيين في جميع الحروب والصراعات المسلحة في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

جاء هذا التقييم للكارثة التي سببها العدوان الإسرائيلي على غزة في تصريحات للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وهو ما أثار غضب تل أبيب وواشنطن أيضاً، لكن توالت التقارير الأممية والغربية من أكثر من جهة لتؤكد هذا التقييم، بحسب تقرير لموقع Axios وصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية وغيرهما من وسائل الإعلام الغربية، المنحازة شكلاً ومضموناً للرواية الإسرائيلية.

وحتى يتضح أكثر السياق العام لتصريحات وزير الدفاع الأمريكي، من المهم هنا توضيح أن تصريحاته تلك جاءت بعد يومين فقط من استئناف إسرائيل عدوانها على غزة بعد كسر هدنة تبادل الأسرى التي استمرت أسبوعاً، وسبقت تلك التصريحات ما يراه البعض "تغيراً لفظياً" في الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل، حيث بدأ الحديث يتصاعد إعلامياً على لسان بايدن ونائبته كامالا هاريس وبلينكن وغيرهم من مسؤولي الإدارة بضرورة أن "تبذل إسرائيل مزيداً من الجهود لتقليل الخسائر البشرية بين المدنيين".

وبالتالي فإن التفسير الأقرب للواقع بشأن تصريحات أوستن هو أن الوزير الأمريكي يريد أن يمارس الضغوط على جيش الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، ومن ناحية أخرى محاولة وضع مسافة بين أمريكا وإسرائيل مع انطلاق المرحلة الثانية من العدوان على غزة للقول لاحقاً إن ما تعرضت له إسرائيل من "هزيمة استراتيجية في غزة" يخصها وحدها.

هل تقيم إسرائيل "وزناً" لتحذيرات أمريكا؟

قبل الخوض في هذه النقطة، من المهم هنا التوقف عند الحقائق المتعلقة بالأعداد الهائلة من الشهداء المدنيين في غزة وأسبابها الفعلية، بحسب ما رشح من معلومات حول قواعد الاشتباك التي يطبقها جيش الاحتلال وتوظيف الذكاء الاصطناعي في تحديد "الأهداف العسكرية" في غزة، ومصدر تلك المعلومات ليس حماس ولا أي جهة فلسطينية أو عربية، بل هي جهات إسرائيلية وغربية.

فقد وضع جيش الاحتلال معايير منخفضة لقواعد الاستهداف خلال العدوان على غزة، ووظف الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف العسكرية "المؤهلة" للقصف والاستهداف بطريقة لا تلقي بالاً من الأساس للأضرار المدنية، بشراً أو حجراً، وهو ما كشفه تحقيق استقصائي مشترك بين مجلة Mag+972 وموقع Local Call، وكلاهما إسرائيلي، يرصد أسباب الارتفاع غير المسبوق في أعداد الضحايا المدنيين بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.

التحقيق الاستقصائي الذي أجرته المجلة والموقع الإسرائيليان كشف أن جيش الاحتلال قام بتعديل قواعد الاشتباك لديه من جهة وتوسع في توظيف الذكاء الاصطناعي لتحديد "الأهداف" في قطاع غزة من جهة أخرى. والمقصود بقواعد الاشتباك لدى الجيوش في حالة الحرب هي تلك القواعد التي تهدف بالأساس إلى منع استهداف المدنيين والمنشآت المدنية من جهة وتقليل الأضرار الجانبية على المدنيين في أي عملية عسكرية من جهة أخرى.

وفي هذا الإطار، كشف التحقيق الإسرائيلي أن قواعد الاشتباك تم تعديلها من جانب جيش الاحتلال، بحيث إنه إذا تم رصد "هدف" تصنفه إسرائيل على أنه "عسكري" يتم إصدار الأمر باستهدافه حتى لو كانت المعلومات المتوافرة تؤكد بشكل قاطع، أن "الأضرار الجانبية على المدنيين" ستكون بالمئات، يتم اتخاذ قرار توجيه القصف على أية حال.

التحقيق الإسرائيلي، الذي شمل إجراء مقابلات مع العديد من مسؤولي المخابرات الحاليين والسابقين في دولة الاحتلال، أشار إلى أنَّ التوقعات المنخفضة بشأن الحد من الأهداف المدنية تم دمجها مع استخدام الذكاء الاصطناعي بهدف إنشاء مجموعة واسعة من الأهداف، فيما وصفه أحد الأشخاص الذين تحدثوا للمجلة بأنه "مصنع اغتيالات جماعية".

أما توظيف الذكاء الاصطناعي لتحديد "الأهداف العسكرية في غزة" فيتم من خلال عدة تطبيقات أو منصات تعمل من خلال قاعدة البيانات التي يزودها بها الإسرائيليون في أجهزة الاستخبارات وجمع المعلومات وباقي أفرع الأجهزة الأمنية في الجيش، بهدف رصد أماكن "الأهداف العسكرية"، ومن هذه المنصات برنامج ذكاء اصطناعي طوره جيش الاحتلال يسمى "ذا غوسبيل The Gospel" يتم تغذيته بالبيانات، ويقوم البرنامج باختيار "الأهداف" التي يراد قصفها في قطاع غزة، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.

ومع تخفيض قواعد الاشتباك، إذا كان هناك مكتب لمتحدث إعلامي باسم حماس أو مكتب إعلامي لحركة الجهاد الإسلامي، يقع بأحد الأدوار في برج سكني مكون من 20 طابقاً، فإن منصة الذكاء الاصطناعي تقرر أن المبنى يعتبر "هدفاً عسكرياً" ويتم إرسال إحداثياته للطائرات فتنفذ القصف على الفور بغض النظر عن أن المكتب "المستهدف" قد يكون خالياً من الأساس وقت القصف.

من الصعب تصور أن معلومات كهذه غائبة عن الإدارة الأمريكية، وبخاصة وزير الدفاع أوستن، منذ بداية العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فهل توجد مؤشرات على أن إسرائيل قد "تستمع" إلى التحذيرات الأمريكية بشأن استهداف المدنيين؟ كلا. لماذا؟ لأنه منذ استأنفت إسرائيل العدوان صباح الجمعة 1 ديسمبر/كانون الأول، ارتفعت وتيرة استهداف المدنيين بصورة لافتة، في الوقت الذي كان يجب فيه أن يحدث العكس. إذ فقد أكثر من 700 فلسطيني حياتهم، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، خلال 24 ساعة فقط من استئناف العدوان.

وعلى مدار الساعة ودون توقف إطلاق تقصف إسرائيل براً وبحراً وجواً المباني السكنية والمنشآت المدنية والمستشفيات في جميع أنحاء قطاع غزة، شماله ووسطه وجنوبه، دون أن تكون هناك مناطق آمنة على الإطلاق، رغم أن بايدن وإدارته تحدثوا علناً عن حتمية وجود مناطق آمنة للمدنيين، فماذا يعني ذلك؟

الخلاصة هنا هي أنه طبقاً لما صرح به وزير الدفاع الأمريكي تعرضت إسرائيل بالفعل لهذه "الهزيمة الاستراتيجية" وجاء "التحذير" بعد فوات الأوان، إذ خسرت إسرائيل "مركز الجاذبية" ليس فقط في غزة بل في الضفة الغربية والقدس وباقي أراضي فلسطين وحول العالم أيضاً.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي