صاحب القلم

2023-09-01

هارون الصبيحي

مشهور سالم عبد الحق، هذا اسمي، ولدت في هذا الوطن وحيداً لأبوين، كان أبي موظفاً في وزارة الثقافة، كان كاتباً ومثقفاً حقيقياً صاحب رأي وموقف وفعل، في بيتنا مكتبة كبيرة فيها مئات الكتب، أحببت القراءة مذ كنت طفلاً، كنت أقرأ كل القصص التي يشتريها أبي لي، وكان يناقشني أحياناً في مضمونها، كان أبي سعيداً جداً بولعي بالقراءة، أحياناً كنت أحاول أن أقرأ الروايات التي تقرأها أمي، لا أفهم منها إلا القليل لكنني كنت مستمتعاً بذلك. لن أنسى أبداً تلك الليلة التي جلست فيها مع أبي وهو يقرأ على مسامعي أنا وأمي ما كتبه عن النفاق.

لا تنافق

وتكتب بعودٍ من قصب

عن فضائل أبو لهب

لا تنافق إلى الأبد

ولو منحوك الذهب

والشهرة واللقب

أو عزلوك في قاع البلد

أترى حين يغتصبون بنات أفكارك

ويؤسسون بيت دعارة في دماغك

هل ترفع رأسك؟

هي أشياء لا تباع وتشترى

لا تنافق

ولو ناشدتك العشيرة

باسم السياسة ومصالح القبيلة

لا تنافق

فالنفاق رذيلة كبيرة

ومت صادقا فالحياة قصيرة.

بعد أن أكمل القراءة قال: لا تنافق يا مشهور، لا تكن منافقاً، وصيتي لك أن لا تنافق. أحيل أبي إلى التقاعد مبكراً، الأسباب غير المعلنة سياسية، كان معارضاً للأخطاء والخطايا، لم يستسلم قلمه للترغيب والترهيب، كان مناضلاً شجاعاً ولذلك تأمروا عليه وخططوا للتخلص منه، أمي ماتت بعد أن صارعت مرض السرطان لأكثر من عام، ماتت قبل أن تبلغ الخمسين، كم هو مؤلم موت الأم، ساءت أحوال أبي كثيراً بعد موت أمي، كان يحبها بل يعشقها، كان يحاول أن يبدو متماسكاً أمامي، لكنني كنت أشعر بأنه ينهار، لم يعد ذلك الرجل القوي الذي يتحلى بالصبر، رغم ذلك تابع مقاومته للفساد. كنت في السنة الثالثة في الجامعة عندما اعتقلوا أبي بتهمة ملفقة، حكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام، لن أنسى ملامح وجهه بعد قرار الحكم، كان ينظر إلى سقف المحكمة، تشعر بأنه في عالم آخر، أو يفكر في أمر أكثر أهمية، كان متماسكاً وغامضاً لكنه قال لي: الحمد لله سأموت نظيفاً، لا تحزن يا مشهور، وصيتي لك أن لا تنافق.

وجدت نفسي وحيداً مع أحزاني، أقاربنا لم تكن علاقتهم مع أبي جيدة، كانوا منافقين ومتسلقين، أبي كان مساره متعارضاً مع مسارهم، تركوا أبي يواجه مصيره، كيف سأكمل دراستي في الجامعة؟ راتب أبي التقاعدي لا يكفي إلا لدفع أجرة البيت والطعام، قررت أن أبحث عن عمل يساعدني حتى أكمل دراستي، عملت حارساً في عمارة، كنت أنظف مدخل ودرج العمارة وأحياناً يطلب مني بعض السكان الذهاب لشراء بعض ما يحتاجونه من السوق مقابل أجرة بسيطة، وبعد عام تخرجت من الجامعة. ومن كلية الآداب تحديداً بتفوق، لم أفرح بذلك، بل بكيت حتى شعرت أنّي أبكي دماً، لقد مات أبي في السجن قبل أن يعلم بنجاحي، مات مظلوماً، هذه جريمة لم يحاسب عليها أحد، قررت أن أتابع مسيرة أبي النضالية، لكن الخراب كان قد انتشر، وصل إلى داخل الناس، سألت نفسي. ماذا سيحصل غداً مع كل هذا الخراب؟

دائما كنت أسمعهم يقولون: مع الأيام الجيد يبقى والرديء يتلاشى، ما حدث ويحدث هو العكس تماماً، الرديء كبر وأصبح في المقدمة والجيد في القبر، الشر يبقى والخير يتلاشى، الشر قوي والخير ضعيف، تقدمت بطلب وظيفة إلى جهات حكومية وخاصة، لكن تاريخ أبي كان عائقاً، أنا ابن مجرم كان يحرض على الفتنة، ويا لها من فتنة! أن تحرض المسروق على السارق فأنت مجرم! بعد جهد جهيد وجدت عملاً في صحيفة أسبوعية، عمل وليس وظيفة، مقالة كل أسبوع مقابل عشرين ديناراً، كيف أعيش بهذا المبلغ من المال؟ هذا ممكن مع متابعة عملي في حراسة العمارة، المقالة الأولى نشرت لكن مع ملاحظة من رئيس التحرير بتخفيف اللهجة، ومع المقالة الثانية والثالثة والرابعة تكررت الملاحظة رغم أنّي لجأت إلى الترميز في الكتابة، لكن يبدو أن ذلك كان مقلقاً أكثر، كل فاسد كبير أصبح يعتقد أنه هو المقصود من كتاباتي، وكما يقول المثل الشعبي (اللي على راسه بطحة يحسس عليها) الملاحظة الأخيرة بعد المقالة الخامسة كانت تحمل رسالة مبطنة من إدارة الصحيفة. توقف عن هذا الأسلوب في الكتابة، أنت تلعب مع الكبار وستحرقنا بنيرانهم، توقف أو لن ننشر لك ومع السلامة، ضحكت وأنا أقول مخاطباً رئيس التحرير أثناء حوار عن اللهجة في مكتبه: معك حق. الفساد مواطن محترم لا يجوز التعامل معه بقسوة، يجب أن ندلّعه ونخاطبه بمحبة ومودة، الفساد طفل يحتاج للرعاية والحنان، هل هذا هو المطلوب؟ هل هذا ما تقصده بتخفيف اللهجة؟

– أنت تتطاول يا أستاذ مشهور، لماذا لا تكتب كما يكتب زملاؤك؟ هل تقرأ مقالاتهم؟

– نعم أقرأ، أو بعبارة أدق أقرأ وأنظر

ليلة أمس رأيت مقالة

ترفع على رأسها صورة الزعيم الخالد

وعلى صدرها يجلس مسيلمة

ساقها اليمنى بن سلول

واليسرى هبنقة.

– ماذا تقول؟

– أقول وداعاً للصفحات التي تصافح الفاسد وتصفع المظلوم.

بعد حين وجدت نفسي وحيداً مهمشاً، كنت أكتب قصصاً قصيرة كل ليلة وأقرأ روايات وكتباً في الفلسفة، وأقرأ مقالات رفاقي في الجامعة وأشعر بالغثيان من نفاقهم وتملقهم، لا.. أنا لن أبيع قلمي حتى لو مت من الجوع.

قالوا وحيدا وفقيرا

قلت أجل

وكوخي شامخٌ في أعلى الجبل

أعيش فيه على شمعة الأمل

تزورني غيمة أفكار وتمطرني بالقبل

توأم أنا والقلم

أكتب صادقاً عن الوطن

كلماتي المجنونة تركض تحت المطر

تبحث عن أمل

يضربها أبوجهل وصنم

يحيى هُبل

ماذا أكتب والرفاق قد باعوا القلم؟

ما بقي في الرأس غير صور

لقلم يعيش في أعلى الجبل.

لماذا لا أرسل مقالات وقصص إلى صحف ومجلات خارج الوطن؟ هذه فكرة ممتازة وأنا لا أملك مالاً لطباعة كتب؟ وهذا ما حصل، ونشرت مقالاتي وقصصي القصيرة في صحف عربية شهيرة وكذلك راسلت صحيفة أجنبية ونشروا لي مقالات، بل أعجبتهم كثيراً، ما أن بدأت كتاباتي تحدث تفاعلاً كبيراً حتى وجدت نفسي شخصاً مهماً، وبدأت محاولات ترغيبي أو بعبارة أدق تدجيني لأصبح مطبلاً ومصفقاً للكبار، سأحصل على وظيفة ودعم إعلامي وتكريمات بين الحين والآخر مقابل أن أقلب الأسود إلى أبيض، والكتابة فن وفلسفة وترقيع، يريدون مني أن أكتب بفرشاة الأحذية، أن أكتب عن الأحذية الكبيرة التي سرقت مال الدولة والشعب، يطلبون مني تلميعها والمكافأة أن أصبح لساناً لحذاء كبير، طبعاً هذا كان مستحيلاّ، لست بطلاً لكن الكتابة عندي أمر مقدس، الكتابة حرية، لا يمكن أن أكون دجاجة في مزرعتهم، وبدأت المشاكل، تشويه سمعتي واتهامات بالتخابر مع جهات خارجية، وتجييش عدد من الكتّاب والأدباء ضدي، كل هذا كان تمهيداً للضربة القاضية.

الأوغاد

الأوغاد يخططون لقتلي

ربما لتعذيبي أولاً

وترهيب من هو على شاكلتي

يريدون فقأ عينيّ وجدع أنفي

وتكسير أصابعي وأسناني

وقطع أذُني اليمنى

ولساني

وسلخي مثل خروف العيد

الأوغاد يريدون أن يضعوني على الخازوق

أيها الحمقى ليس أنا

لست الشخص المطلوب

أنا فقط كتبت قصص حب

وقصائد غزل

عن فاتنة تُدعى عدالة

وحبيبة اسمها كرامة

أنا فقط كتبت رسالة

إلى أصحاب الفخامة

ودمية تجلس على كرسي الإمامة.

بعد حين وجدت الشائعات المخطط لها بدهاء شيطاني تطاردني.. مشهور تحرش بامرأة من سكان العمارة التي يحرسها.. مشهور تحرش بصبي.. مشهور يسخر من الدين.. مشهور ضد المرأة.. مشهور متهم بسرقة شقة في العمارة.. طبعا مشهور سيسجن لكن ليس ككاتب معارض حتى لا يصبح بطلاً، بل كمجرم بلا أخلاق.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي