في ذكرى رحيل الروائي الطاهر وطار

2023-08-16

واسيني الأعرج

كثيراً ما انتابني هذا السؤال الوجودي وأنا ألتفت نحو المؤلفات التي تزين رفوف مكتبتي. أفتح الإلياذة والأوديسة، الأحاديث النبوية الشريفة، رسالة الغفران، الكوميديا الإلهية، ناس دوبلن، زوربا، في البحث عن الزمن الضائع، أولاد حارتنا، ريح الجنوب، الصبي الأعرج، الشمس في يوم غائم… وغيرها من عشرات الكتب ولا أسال أبداً إن كان أصحابها أحياء أم أمواتاً، فهم رفاقي الدائمون، كلما احتجت إليهم وجدتهم بجانبي. الطاهر وطار واحد من هذه الكوكبة الإبداعية.

ولد الطاهر عام 1936 في بيئة ريفية. التحق بمدرسة جمعية العلماء في 1950. أرسله أبوه بعدها إلى قسنطينة ليتفقه في معهد الإمام عبد الحميد بن باديس في 1952. وانتبه إلى أن هناك ثقافة أخرى موازية للفقه ولعلوم الشريعة، هي الأدب. ثم التحق بتونس في 1954 حيث درس قليلاً في جامع الزيتونة، قبل أن ينضمّ في 1956 إلى جبهة التحرير الوطني التي ظل يعمل في صفوفها حتى 1984. هناك اكتشف قوة الأدب وسلطته. وقد مثل دائماً الجناح اليساري داخل جبهة التحرير الوطني. عُيِّنَ في 1963 عضواً في اللجنة الوطنية للإعلام، ثم عمل مراقباً وطنياً حتى أحيل على التقاعد وهو في سن 47. شغل بعدها منصب المدير العام للإذاعة الجزائرية عامي 1991 و1992. أسس أخيراً «الجمعية الثقافية الجاحظية» عام 1989 التي كانت رهانه الكبير ثقافياً وكل شيء في حياته، قبل أن تموت الجمعية بعد وفاته مباشرة.

كتب الطاهر وطار كثيراً في القصة القصيرة والرواية. من مؤلفاته: «دخان من قلبي» (1961)، «الطعنات الجزائر» (1971)، «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» (1974)، على الضفة الأخرى (مجلة الفكر تونس أواخر الخمسينيات). «الهارب» (1971)، اللاز (1974)، الزلزال (1981)، عرس بغل (1983)، تجربة في العشق (1989)، الشمعة والدهاليز (1995)، الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي (1999)، وأخيراً رواية: قصيد في التذلل (2009) بدار الفضاء الحر.

هل الموت نهاية؟ في نظر المبدع والفنان، طبعاً لا. الموت مجرد حالة كيمياء طارئة في الزمن والمكان. المشكلة في عالمنا العربي كثيراً ما يحمل الميت حياته معه. كثيرة هي الأسماء الكبيرة التي ملأت زمانها صخباً ونقاشاً وإنتاجاً، لا أحد يتذكرها اليوم؟ على العكس مما يحدث في كل أصقاع الدنيا بحيث يظل النص هو الأبقى متجاوزاً صاحبه في كل شيء حتى في القدرة الاستثنائية على الاستمرار. أعتقد أن الذي يضمن ذلك هو القراءات المتجددة التي لا تتوقف أبداً وإزاحة الأغطية السرية عن كثير من النصوص. هذه الدينامية تضع أسئلة الأجيال السابقة في مواجهة إرباك الأجيال الجديدة، مما يضمن الاستمرارية وربما الأبدية. ونحتاج إلى زمن آخر لنقبل بأن الذين قاسمونا قسوة الحياة ونبلها يموتون أيضاً. في النهاية هم لا يموتون إلا قليلاً، لأن كتبهم وإهداءاتهم ومناوشاتهم واختلافاتهم تظل تذكرنا بأن عالماً كبيراً كان هنا وانسحب تاركاً وراءه فراغاً مؤلماً.

لم يكن وطار كاتباً هادئاً ومستقراً. ببساطة، كان إشكالياً ككل الكتاب الكبار، بكبر القضايا الحياتية التي أثاروها في كتاباتهم الكثيرة والمتنوعة. من القصة والرواية والسيرة، مروراً بالمسرحية والمقالة السياسية والفكرية وانتهاء بالنقاشات اليومية، كان وطار يرسم رحلة مثقف عضوي، ارتبط بوطنه وبقضايا حركة التحرر الوطني مثله مثل جيل عربي بكامله ظل مقتنعاً بأن ما كان يحدث من انكسارات في عمق المؤسسة الفكرية القومية ليس إلا حالة طارئة وليس ضرراً هيكلياً في العمق والجوهر.

وطار الروائي كان شيئاً أكبر من ذلك كله، فقد ظلت نصوصه الروائية، من بداياتها، حتى في حالاتها الفردية بدءاً من نص تجربة في العشق وانتهاء بالولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء (أستثني قصيدة «في التذلل» لأن الطاهر عاد إلى خصوصيات تجربته الأولى القريبة من الزلزال حيث أصبحت المؤسسة هي رهانه وليس الحالات الفردية، لأن الأفراد يظلون سجناء هذه المؤسسة التي تصغّرهم وتمتص كل حالات الخلق والإبداع الموجودة فيهم، وكأن الطاهر وهو يكتب نصه الأخير تحت حالات الألم التي لم يكن شيء قادراً على إسكاتها إلا بمورفين الكتابة، عاد إلى نبعه الأول) ترسم التراجيديا الخفية لطبقة بكاملها خانت مثلها العليا قبل أن تفتح عينيها على أنظمة خسرت في مجملها موعدها مع التاريخ، وعلى طبقات اجتماعية جديدة لا رهان لها إلا رهان الربح والخسارة والمصالح الذاتية الضيقة.

ترك الطاهر وطار وراءه مادة ثقافية ضخمة تتطلب الكثير من الموضوعية والتجرد والعمل الجاد. فقد ظل إلى آخر أيامه مقتنعاً بجدوى مشروعه الإبداعي ودافع عنه باستماتة مع كل ما يمكن أن يتركه من جراحات وردود فعل. في جلسات حميمية في خلوته المرضية سواء في مستشفى سانت أنطوان، أو في بيت النقاهة في «درانسي» أو في بيتي في باريس، ظل صفاء ذهنه هو الغالب. من خلال نقاشات يمكن اليوم أن تشكل كتاباً فريداً، فقد قال وطار الكثير مما لم يقله. حتى عندما استضفته قبل انتقاله إلى باريس في الورشة الروائية التي خُصِّصتْ له على مدار السنة مع طلبة الماجستير، في جامعة الجزائر المركزية، كانت فكرته عن البحث الجامعي غير دقيقة، ولكنه بمجرد أن استمع إلى مداخلات طلبة الماجستير الذين خصصوا أبحاث السنة لأعماله الروائية والقصصية والسيرية، فوجئ بالجدية التي تم بها تناول أعماله الأدبية، إذ نوقشت بكل تجرد وموضوعية. تحدث وطار يومها عن تجربته الحياتية والأدبية الغنية وحتى عن قضايا حساسة وشخصية. وخرج بفكرة ظلت تلازمه في تصريحاته: إنه على رغم ما يمكن أن يقال عن جامعتنا، تظل المكان الأكثر جدية في تناول أعماله الروائية وأعمال غيره من المبدعين.

قلت لطلبتي يومها بأن وجود وطار بيننا مكسب كبير، وحظ استثنائي؛ إذ نادراً ما نجد مؤسساً على قيد الحياة، نناقشه ونستمع إليه. تجربته منحته هذه الخاصية التي لا تمنح لكل الناس. أن تكون مؤسساً ذلك يعني أن يمنحك التاريخ حظاً استثنائياً لا يمنح لغيرك، ولهذا تصبح المسؤولية في غاية العظمة. فقد ذهب ابن هدوقة تاركاً وراءه فراغاً قاسياً، لم نعرف جيداً كيف نستثمره في حياته من موقع التأسيس. وظل وطار علامة تذكرنا دائماً بأن الجيل التأسيسي لا يزال مستمراً لا كتاريخ فقط، ولكن كفاعلية إبداعية حيوية أيضاً.

الرحمة والسلام لروح «عمي» الطاهر الباقي أبداً.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي