كانّي في «أوتلّو عائدا»

2023-08-15

منصف الوهايبي

Hotel al sole

في البُنْدُقيّةِ.. لم أجدْ أحدا سواهُ.. في انتظاري..

واقفًا بالباب.. قلتُ «عُطَيْلُ»؟ أيْنَ لقيتهُ من قبلُ؟ أيْنَ؟ ولم أزُرْ هذي المدينةَ قطّ.. بَلْ هو نَفْسُهُ.. هذا بريقُ المغربِ الجبليِّ في عَيْنيْهِ.. بل سَحْناؤهُ.. هذا البياضُ بَياضُهُ.. هذا السوادُ سَوادُهُ..

ـ «اسمي الذي أُدْعَى بِهِ.. ولهُ.. «أوتلّو».. والجميلةُ هذهِ (كانتْ إلى نضدٍ.. وكأسٍ..) «دَزْدَمونةُ».. سَمِّهَا إن شئتَ.. «مَارِيكا».. المدينةُ هذهِ.. فينيسِيا.. لا البندقيّةُ صاحبي..»

٭ ٭ ٭

هي لم تخنْكَ إذنْ؟ وذا منديلُ أمّك أنتَ.. تلكَ تميمةٌ لكُما.. معاً..

وأنا؟ كأنّي في «أوتلّو عائدا»..

هل جئتُ ألعبُ دورهُ؟ أم دَوْرَ مَنْ؟

في رُكْحِ «بِيرَنْدلّو» ذَا؟

٭ ٭ ٭

لِيكنْ

لهمْ أسماؤُهمْ.. وُلدُوا بِها..

ولنَا.. إذنْ.. أسماؤُنا..

نحنُ الذين نُريبُهُمْ.. عَرباً.. أفارقةً.. مغاربةً…

«أوتلّو».. أم «عُطَيْلٌ».. أمْ «عطاءُ الله» أنتَ؟

وهذه الأسماءُ أسْمالٌ لنا.. الأسماءُ.. كالكلماتِ.. والكلماتُ تُخفي مثلنا.. الكلماتُ تتعبُ مثلنا.. الكلماتُ أبْدالٌ.. وأفراسٌ أُعِدّتْ في مَحَطّاتِ الرحيلِ.. لنَا

وهذي البُنْدُقيّةُ لم تكنْ فينيسيا.. ولعلَّ شيئا كاختلاسِ الاسمِ..

أوْ لكأنّها نَزلتْ بسبْعةِ أحْرُفٍ..

البندقيّةُ؟ نحنُ نَفْتقدُ المَدينةَ إذْ نُسمّيها.. نُتَرْجِمُها..

وهذا الاسمُ يُخْفي.. أو يُخالِسُ.. أو يُخادِعُ.. مثلنَا..

٭ ٭ ٭

فَكّرتُ.. هلْ أنَا في «أوتلّو عائداَ»ّ؟ هل جئتُ ألعبُ دورَهُ؟ أمْ دورَ مَنْ؟

في«كَرنفالِ البُنْدُقِيَّةِ»؟ لا قناعٌ لي.. ولا مزراقُ باخوسٍ..

وأنتَ سَميُّنا.. وشبيهُنا.. عربَ الشمال..

ولستُ مثلكَ..

كنتُ أعرفُ مذْ وطأتُ الجسرَ.. أنّك في انتظاري..

غير أنّي لستُ مثلكَ.. كي تقودَ خطايَ أعشابٌ.. طحالبُ.. كيْ أطَوّفَ.. ما أُطوّفَ في شوارعِها.. أزقّتِها.. كنائسِها.. وآوي.. مثلما تأوي.. إلى بيتٍ كبيتكَ.. عَائمٍ.. في»الأدْرِيَاتِيكي» كأنْ يطفُو.. مع السفنِ التي تطفُو.. ولا امرأةٌ كـ»مَاريكَا».. ونحنُ معا.. نُدلّكُ ليلنا المائيَّ.. حيث الليلُ في فينيسيا أرضٌ.. وحيث الأرضُ ماءٌ.. حيثُ ضوءُ الأفْق في جبْس الضبابِ القِرمزيِّ.. «زجاجُ مُورانُو».. وموسيقى تطوفُ..

Laisse les gondoles à Venise

Le printemps sur la Tamise

On n’ouvre pas les valises

On est si bien

Laisse au loin les Pyramides

Le soleil de la Floride

Mets-nous un peu de musique et prends ma main

«دَعِ الحقائبَ مُقفلاتٍ.. والقواربَ طافياتٍ.. نحن في فينيسيا.. حبّي.. وخذْ بيدِي.. فلا مطرٌ.. ولا بَرَدٌ يُصيبُ بلاطنا.. والبيتُ مثلُ البحر أملسُ.. لا يبيسَ له.. ولا شجرٌ.. ولا كلأٌ.. وهذا الليلُ يحرسُ وقتنا.. مِ الريحِ.. كيف إذنْ يموتُ الناسُ في فينيسيا؟ بلْ هلْ يموتُ الناسُ في فينيسيا؟»

أنا لستُ مثلكَ.. كي تقود خطايَ أجنحةُ النوارس.. والحمامِ.. لكي أطير محاذياً ساحاتِها.. حاناتِها.. وأطلَّ من جسرٍ.. على مستنقع الأمواهِ والغدْرانِ مصفرّا..

فمرتفعاً.. فمنهبطاً.. فمنحدراً.. فمخْضرّاً.. فأدغمَ.. ثمّ أطحلَ.. ثمّ أوْرَقَ.. كالخيولِ

ولستُ مثلك.. يا أوتلّو.. لا أنا «ألكوسُ» أيضاً

أو «إياغو».. كيْ أخونكَ أنتَ..

لا منديلكَ السحريُّ عندي..

لا أنا «جابريال بيلا».. فأسابقَ الثيرانَ والعرباتِ.. في أسواقهمْ..

لكنّني طافٍ من الأسماك.. قد ألقى به في الشطّ «بحرُ الروم»..

لستُ بنورسٍ غازٍ.. ولا أنا من هنودِ قَبيلِ «فِينِيتُو»..

أطلُّ على المدينةِ وهي عائمةٌ.. على «بحر البنادقةِ».. الجسورِ.. ولي أنا قَدمَانِ.. بلْ عينانِ.. حافيتانِ.. أقدمُ منكَ.. للطرق القديمةِ.. يا أوتلّو.. غير أنّ الحزنَ كالكلماتِ.. يسرقُنا.. ولستُ أنا بسارقِ نفسهِ.. الكلماتُ تحزَنُ مثلنَا.. الكلماتُ تخْرُسُ مثلنَا..

٭ ٭ ٭

تتكلّمُ الأشياءُ.. إذ تتوقّفُ الكلماتُ.. كيفَ أُتِمُّهُنّ؟ وأينَ؟

والكلماتُ ترمقنِي بعين حمامةٍ ملتفّةٍ في ريشها.. حطّتْ بأعْلى «جِسرِ رِييالْتُو»

وكان الماءُ كالجندولِ حرّاً وهْو يجرِي..

*N. Kazantzakis, Othello returns أوتلّو عائدا أو «عودة أوتلّو»

**Gabriel Bella لوحة سباق الثيران والعربات اليدويّة

كاتب وشاعر تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي