نور الحب

2023-08-15

الياس خوري

لم أجد عبارة أو كلمة ملائمة لوصف الألم، فالألم عصي على الوصف، ولا يستطيع ما اصطُلح على تسميته بالتشابيه والاستعارات القبض على معانيه، وتحويلها إلى أداة تواصل. فالألم مجموعة من العواصف الهوجاء التي تضرب الجسد وتمزق الروح، بحيث لا تجد وسيلتها التعبيرية سوى في الأنين أو الصراخ.

نَصِفُ الألم بالألم، ونكتشف قصور اللغة وعجزها عن تسمية الأساسي في حياتنا، فلا وجود لكلمات تسمي الروائح كما لا وجود سوى لكلمات قليلة تسمي طعم الأشياء، لذلك نضطر ونحن نحكي عن الروائح أو الطعم أن ننسب الأشياء إلى ما هو في خارجها. أما حين يتعلق الأمر بالألم فلا وجود لخارج ننسب الألم إليه، ولا وحود لبلاغة تحمله وتخفف من أوجاعه.

الألم ليس أخرس، فهو يمتلك لغته التي لا نملك أدوات ترجمتها إلى لغة للتواصل، لذلك ربما احتل الخرس موقعاً خاصاً في أدب النكبات والكوارث، فالألم يوحي بأنه أخرس، مع أنه يلعلع في الأحشاء، لكن ما يقوله لا يصل إلى الآخرين. فلغته خاصة به ولا تُترجم، فيُنسب الألم إلى الخرس الذي هو تعبير عن العجز عن الفهم.

هل الألم هو سرّ الحياة الذي لا يتجلّى إلا حين تلتقي نهاية الحياة ببدايتها؟

ربما كان هذا هو سر غياب الألم في الأدب، فالأدب يبجث عن نكهات الحياة في شتى أشكالها: الحب والخيبة والشوق والحلم، لكنه عاجز عن الوصول إلى سر اللقاء الرهيب بين النهاية والبداية. لا يكفي أن يصرخ أنسي الحاج في قصيدته «العاصفة»عن «الأوجاع الشخصية» كي ينقل لنا نكهة هذه الأوجاع، كما لا يكفي أن يقوم محمود درويش بترميز الألم الهائل في قصيدته الكبرى «الجدارية»، كي يمزج الألم الذاتي بالألم الجماعي.

حتى السياب الذي تقمص في أيام عذاباته الأخيرة مع المرض شخصية أيوب بقي شعره يحوم حول الألم، ولم يأخذنا إلى أعماقه.

نحن أمام أحجية عصية على الفهم. حتى عندما نصل إلى شخصية يسوع الناصري، فإن المسيحية تتناسى أو تهمش آلام الصلب أمام مجد القيامة، أما في الاسلام فإن عيسى بن مريم لم يُصلب، بل شُبّه لهم.

لم أتوقف عن التفكير في معنى الألم وأنا أعيش في داخله منذ أربعين يوماً، ألم وحشي لم يتوقف، يشل العقل والإرادة والأعصاب والمنطق.

في المستشفى وسط البنج وعقاقير التخدير وداخل جسد يتلاشى، لم أستطع أن أقرأ سوى في كتاب روحي التي تتألم.

قرأت كلمتين: الحب من جهة والألم الذي يقود إلى الموت من جهة أخرى، وكان عليّ أن أختار بينهما. الحقيقة أنني لم أكن قادراً على الاختيار، فالألم الوحشي لا يشل جسدك فقظ بل يشل روحك أيضاً. لذلك أعترف أنه ليس لي أي فضل فيما جرى ويجري. إذ وجدت نفسي محمولاً على موج الحب الذي أحاط بي. وكان الصراع مريراً وقاسياً، الحب يأخذك إلى بيروت التي يتصدع فيها الحلم لكنها لا تزال مدينتك ومدينة غربائك. بيروت التي صنعت روحك وأخذتك شموسها إلى الحرية والإبداع وعلمتك أبجدية الكتابة كطرق لتحرير الروح. كما يأخذك إلى الموعد الذي ضربته لرفاقك الأحياء والشهداء في فلسطين وفي قريتك «باب الشمس» التي هدموا خيامها لكنهم لم يستطيعوا هدم أو محو كلماتها.

كتب جورج أورويل: «في مواجهة الألم لا يوجد أبطال».

كم يبدو هذا الكلام مصيباً فالألم لا أبطال له، لكنه في المقابل لا يقاوَم سوى بالحب. في وحدتي وألمي لست بطلاً ولا أدعي البطولة. كنت كتلة من الأنين حملتها العيون والشموع والدموع، فصار الحب نداً للألم تمهيداً للانتصار عليه.

وأنا أكتب هنا لأشهد لنور الحب.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي