
قبل ساعات قليلة من خروج القوات من الحملة القصيرة الثلاثاء ليلاً، طلب الجيش الإسرائيلي إدخال المراسلين العسكريين لأخذ انطباع عما يجري في مخيم جنين للاجئين، منذ الاشتباك الأخير في ساعات متأخرة من الليل في يوم الحملة الأول، لم يُشاهد مسلحون بالعيون ولم تسمع أصوات قتال في المعسكر. ثمة إحساس بالأمن دفع الناطق بلسان الجيش إلى اتخاذ القرار لإدخال الصحافيين إلى الميدان. وقد استهدف محاولة شرح غاية العملية – بين أقوال متناثرة جداً عن تغيير المعادلة زعماً، وتعظيم باقي إنجازات الحملة من جانب رئيس الوزراء ووزراء آخرين وأعضاء حكومة آخرين ممن لا يعدّ مجال الأمن من مسؤوليتهم ويحاولون استخدامه سياسياً. كما لا يمكن تجاهل الادعاءات المتناثرة التي أطلقها الجمهور وأجزاء من الإعلام عن أن عدد المخربين القتلى في الحملة 12 فقط، هو تعبير عن انعدام الإنجازات في الحملة. إن شئتم، إحصاء جثث المخربين كتعبير عن الإيفاء بالمهمة والنجاح. بين هذه الأقطاب ينبغي القول إن مسؤولي الجيش ووزير الدفاع الذين يرون في الحملة عملاً مبادراً هجومياً ناجحاً ذات أهمية لاحقاً، من ناحية عملياتية ومعنوية، أطروا منذ بداية الحملة غايتها وإنجازاتها بشكل منضبط وموضوعي أكثر. يدور الحديث عن ارتفاع درجة في طبيعة نشاط الجيش الإسرائيلي، والهدف هو التأثير على حرية عمل الجيش في اعتقال المطلوبين أو في تحقيق هدف عملياتي آخر منذ المستقبل القريب، ووقف ميل تحول المخيم إلى هدف محصن يخشى الجيش الإسرائيلي العمل فيه خوفاً من تصعيد أمني أو قتلى كثيرين في أوساط مقاتلينا.
بالإجمال، كانت حملة محدودة وذات أهداف متواضعة. لكن رغم ذلك، لم تنفذ حملة مثلها منذ سنوات طويلة في مخيم جنين، ومن هناك الغمز لمخيمات اللاجئين وقصبة نابلس. إذ في ضوء ميل التصعيد، من المتوقع أن يشدد الجيش الإسرائيلي استخدام القوة في أماكن فقدت فيها السلطة السيطرة على ما يجري في الميدان – ومخيم اللاجئين جنين المثال الأوضح. بين التطلع إلى أن تؤدي الحملة إلى نقطة انعطاف وتلجم ميول التصعيد، وبين الواقع في الميدان حيث لا يبشر بالخير في هذه اللحظة، تحاول إسرائيل إيجاد الطريق الوسط الذي يفرق بين مراكز الضجيج في جنين ونابلس وباقي المناطق في “يهودا والسامرة”.
“الأمر الكبير”
ليس صدفة أن يكون الهدف الأول الذي اختير في جولة الصحافيين المحروسة التي انضممنا إليها -نحن المراسلين العسكريين- هو مسجد عبد الله عزام في أطراف مخيم جنين للاجئين، الذي بدأ منه تفعيل العبوة الناسفة نحو مركبة البانثر المحصنة التي كان فيها المقاتلون. كما يذكر، تطور يوم قتالي في الشهر الماضي قتل فيه عشرة مخربين، ومن ناحية الجيش ترسخ فهم بأن المطلوب هو عمل أكبر لضرب بنى الإرهاب التحتية داخل مخيم اللاجئين في جنين. زرعت العبوة الناسفة تحت الطريق على مسافة 70 متراً فقط عن المسجد.
ننزل من طابق المدخل إلى الطابق السفلي. النافذة التي تطل على الشارع من غرفة الوضوء تطل على النقطة التي فُعلت فيها العبوة. ثقبان صغيران في الحائط دليل على الخيط الذي فعّل العبوة الناسفة من داخل المسجد. نصب كمين للقناصة على مسافة أكثر من 100 متر عن المركبة التي أصيبت، وكان يفترض أن يقتل المقاتلين الذين يخرجون من المركبة بعد الانفجار. رغم الأخطاء العملياتية، كان بعض الحظ هذه المرة أيضاً: خرج الجيش الإسرائيلي بثمن زهيد من يوم القتال الذي تطور، ولكن مع فهم مهم بأن الوضع يتطلب تغييراً لنمط العمل في الميدان.
يبدو أن العملية القاسية قرب “عيلي” أدت إلى تسريع السياقات. في المداولات التي أدارها رئيس الوزراء، اقترح وزير الدفاع ورئيس الأركان إمكانية أخرى، وهي رفع شكل النشاط العسكري بدرجة إضافية – من تفعيل مسيرات وحتى تعميق مدى وشدة الحملات، ولكن بشكل لا يجرنا إلى تصعيد في الضفة يخدم إيران قبل كل شيء، وربما يخدم “حزب الله” وحماس في غزة أيضاً. قبل نحو شهر كتبنا في هذه الصفحة تحت عنوان “الأمر الكبير التالي” بأنه في ضوء تدهور الوضع الأمني، يستعد جهاز الأمن لإمكانية ارتفاع درجة مهمة في حجم وشدة الحملات، خصوصاً في مخيمات اللاجئين في جنين ونابلس. بعد أسبوعين من ذلك، حدد حدث التورط في يوم المعركة في جنين حدود الحملة المقتربة. فقد تقرر مخيم اللاجئين كهدف أول للعمل بسبب مسيرته المتسارعة لتحوله إلى هدف محصن، من خلال العبوات، وكمائن النار للقوات والعوائق التي داخل مخيم اللاجئين الذي ستتطلب من الجيش حجوم قوات هائلة لتنفيذ ولو اعتقال واحد.
أين المسلحون في الصورة
عودة إلى المسجد وإلى اليوم الثاني من الحملة. الزمن، قبل بضع ساعات قليلة من الحدث القاسي الذي سقط فيه العريف أول دافيد يهودا إسحق، أغلب الظن بسبب تشخيص مغلوط لرفيقه في الوحدة، ومع استئناف معارك قليلة داخل المخيم حيال مخربين بعد الهدوء التام في أثناء اليوم. في مخرج المسجد، هدوء تام. زنين المُسيرات في الجو ذكّر قليلاً بأنه الحملة لا تزال مستمرة. من الصعب التصديق بأن معركة دارت في المكان الذي نحن فيه مع عشرات المسلحين قبل أسبوعين. من المسجد نفهم الفكرة العملياتية للجيش إزاء الحملة الحالية، حيث كان واضحاً بأن نقطة الضعف للوصول إلى مخيم اللاجئين تكمن في المداخل المؤدية إليه. مثل العبوة التي استخدمت قبل أسبوعين، قدر الجيش بأنه عبوات مزروعة وكمائن لمسلحين فلسطينيين تنتظرهم هذا الأسبوع.
في البحث عن مفاجأة في حملة اجتياح مخيم جنين للاجئين كان واضحاً بأنه لا يمكن كتمان السر عن نية الخروج إلى حملة. وبالفعل، في الأيام التي سبقت الحملة، عندما درب الجيش مئات عديدة من المقاتلين طوال أسبوع ونصف، استعد مخيم اللاجئين أيضاً أكثر لصد دخول القوات؛ فقد نشروا العبوات، وأعدوا العوائق، بينما كانت كل المنطقة مشبكة بكاميرات بسيطة مهمتها نقل تحركات قوات الجيش في الزمن الحقيقي إلى غرف الوضع داخل الشقق في المخيم.
إن استخدام المُسيرات من الجو كضربة بدء للهجوم على الغرفة المشتركة لفصائل الإرهاب في المخيم إلى جانب هجمات أخرى، هي التي خلقت عنصر المفاجأة في حملة الاجتياح ودفعت معظم المسلحين الذين انتظروا القوات على مداخل المخيم لترك مواقعهم والهرب إلى قلب المخيم وإلى مناطق أخرى في المدينة نفسها. في هذه المرحلة كان معظم القتلى في أوساط المسلحين الفلسطينيين. الفوارق الواضحة في موازين القوى، وحقيقة أنهم لم ينجحوا في التعبير عن الخطة لضرب قوات الجيش في مرحلة الدخول إلى المخيم أدت عملياً إلى إنهاء المعركة على المخيم منذ ضربة الافتتاح – وأدت إلى أن يكون عدد المعارك وجهاً لوجه في أثناء الحملة يمكن إحصاؤه بأصابع اليدين.
في اليوم الثاني من الحملة، لم تلحظ القوات في الميدان أي مسلحين حتى بدء الخروج من المخيم، أي حين حاول المسلحون الفلسطينيون ملاحقة القوات الخارجة. لحملة بهذا الحجم، لا يعد عدد القتلى للفلسطينيين الذي بلغ 12، عدداً عالياً. وهذا المعطى لا ينبغي أن يفاجئ، لأن المسلحين هربوا من المواجهة مع قوات الجيش، وبالمقابل كان هدف الاجتياح الوصول إلى الأهداف التي حددت مسبقاً: مختبرات التفجير، الطرق المفخخة، مخازن السلاح والعبوات، وكذا ضرب منظومة الدفاع التي أقامها المسلحون في مخيم اللاجئين والتي استهدفت القوات من العمل داخله.
المشبوهون الثلاثون الذين اعتقلوا ونقلوا إلى “الشاباك” في التحقيق كفيلون بأن يعمقوا صورة المعلومات الاستخبارية الناقصة لدى إسرائيل بالنسبة لميول الإرهاب. لا ينبغي الاستخفاف بكل هذا. على أي حال، لقد دارت حملة الجيش هذه بشكل جيد ومنظم، حيث وصلت القوات إلى الحملة جاهزة ومدربة. ومع ذلك، لا مجال للمبالغة الزائدة بالنسبة لإنجازات الحملة وأثرها على كبح ميول الإرهاب المتعاظم في السنة والنصف الأخيرتين، التي على أي حال لن تكبح على ما يبدو باستخدام القوة العسكرية فقط.
تل ليف رام
معاريف 7/7/2023