كوجيتو العاشق العربي «أنا أحب إذن أنا مكروه»

2023-06-14

واسيني الأعرج

قد يبدو هذا الكوجيتو غريباً للغاية في عالم ارتقت فيه العواطف الإنسانية وتحررت من قيودها الضاغطة لدرجة الابتذال أحياناً، حيث أصبح الجسد سلعة تسوقها الدعاية الإعلامية بمختلف الأشكال. عندما صدر كتاب غادة السمان عن مراسلاتها مع غسان كنفاني، وبغض النظر عن حقها من عدمه، في نشر رسائل كنفاني دون رسائلها، أثار الكتاب زوبعة إعلامية أخلاقية؛ إذ كيف لكاتبة أن «تهتك» عرض الكاتب وتفشي سره وتهز عرش «قدسيته»؟ شتمت غادة السمان بأقذع النعوت لأنها تجرأت و«هدمت» تمثال القائد والسياسي والحامل لقضية حيوية بالنسبة لشعب يقاتل من أجل حقه في الوجود. شتائم بعرض الصحراء القاحلة وحبات رملها وعطشها وصرخات من حاولوا عبورها بلا جدوى. وحلت فجأة الضغينة مكان الحب وأصبح «كوجيتو الكراهية» حقيقية ملموسة. وكأنه لا حق لغسان أو لغيره في الحب والعواطف؟ في وعي الكوجيتو هو مجرد كتلة جامدة من القرارات والأوامر؟ مع أن غسان كان إنساناً جميلاً واجتماعياً معرضاً للهزات العاطفية كما جميع البشر. الحب شعلة مندسة في دمنا وأهوائنا تنتظر صنوها الذي يخرجها من الظلمة لتصبح نوراً. لم تخطئ غادة في «توريط» غسان في علاقة حب، فذلك حقهما المقدس أبداً. الحب لا يعترف بالمقامات والرتب، ولا أحد يملك حق محاسبتهما على ذلك. للأسف، هذه الظاهرة «كره الحب» تكاد تكون حالة عربية بامتياز. لذلك حتماً مبررات تاريخية وزمانية ومكانية. لم تكن غادة السمان وحدها من عاشت تجربة القسوة التي مورست ضدها لأنها كشفت المستور، أو كما قال أحدهم على صفحات جريدة السفير الغراء وقتها «كيف لغسان كنفاني أن يحب وهو المشبع بقضيته؟» وكأن الحب يناقض القضية؟ لم تنج رسائل ديزي الأمير لخليل حاوي أيضاً من هذا الكوجيتو المميت.

كأننا نعيش في مجتمع كبير يعادي الحب ويكره جانبه الأنثوي الذي لا يمكنه أن يعيش بدونه، ولا يستطيع أن يخفي الشيزوفرانيا التي تخترقه.

فهو لا يكره الأنثى المستسلمة لسلطان الذكورة، فهي منبع لذته وسطوته عليها، لكنه يمقتها عندما تعلن عن حضورها بالقوة الباطنية التي تملكها. من هنا يصبح من الكبائر أن تجرؤ امرأة على كتابة شيء يظهر حقها في التعبير. كم من رجل كتب عن فتوحاته النسوية واستقبل بكثير من التصفيق اعترافاً بفحولته، وكم من امرأة تجرأت على فعل ذلك بالقليل المتاح لها من حرية وكلام، فمرغت على الأرض وربما أعدمت بتصفيق مسبق من القبيلة. ماذا فعلت العقلية نفسها يوم صدرت رواية «أيام معه» لكوليت خوري؟ فقد تعرضت لهجوم أخلاقي غير مسبوق، بل إن هناك من جعل من شخصية ريم الشاعرة رديفاً لكوليت، وزياد مقابلاً لنزار قباني. بينما جوهر الرواية كان هو رفض الذكورة المقيتة وكوجيتو الموت المبرمج سلفاً والانتصار للحب والحرية والفن. يبدو أن القاصة العراقية الكبيرة ديزي الأمير لم تنج من مهالك كوجيتو الموت عندما نشرت مراسلات خليل حاوي لها. من المؤكد أن غياب رسائل الآخر نقيصة في هذه المراسلات كما عند غادة السمان. فهو يقلل من مداها التأثيري حتماً.

لم تكن ديزي الأمير نكرة لتبحث عن شهرة من وراء «فضيحة» الرسائل. فقد كان لها حضورها الكبير في الحقل الأدبي العربي. اختارت. قسوة البشر جعلتها تتوقف عن النشر، وعمرها لم يتجاوز الحادية والستين. رفضت أن تكرر نفسها، كما تقول. وربما كان الإحساس باللاجدوى الذي كثيراً ما يصيب المجتمع الأنثوي، واحداً من أسباب هذا التوقف. في المقابل أيضاً، لم يكن خليل حاوي شاعراً عادياً، كان صوتاً متفرداً، وعاشقاً لديزي الأمير. من المؤكد أن انتحاره جاء من لحظة يأس سرعه الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في السادس من يونيو سنة 1982، لكن بنيته الذهنية الشديدة الحساسة كان لها دور في الكثير من ردود فعله وتصرفاته، والرسائل المنشورة خزان مهم لمعرفة هشاشة خليل حاوي الوجودية، التي مست أيضاً علاقته بديزي الأمير، وعدم قدرته على اختراع العالم الذي يشتهيه. فقد ظل حالماً به بيأس. خلال أزمة «قناة السويس» في مصر في سنة 1956، كتب حاوي رسالة إلى ديزي الأمير بعنوان «الانتحار بداية» تمنى فيها لو كان حاضراً في لبنان ليسهم مع أبناء شعبه في الدفاع عن الحق العربي، ومقاومة الظلم والغطرسة الاستعمارية. «في نفسي ذكريات حلوة تصبغها كآبة ويلفّها يأس مرّ، في نفسي أثرٌ لأحلام كانت تراودني قبل الأزمة وقبل أن أدرك الواقع المرّ في العالم العربي. أما هذا الواقع، كما يبدو لي، فهو أنّي قد أستيقظ في أي صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حُذِفَ من الخارطة. وهذا الخوف يحتلّ أفكاري أحياناً حتى إنه يمنعني من النوم لياليَ». جمل شديدة القسوة.

تفادت ديزي الأمير وضع اسمها على الكتاب، ونسبته لصاحب الرسائل: «خليل حاوي.. رسائل الحب والحياة»، الذي صدر عن دار النضال للنشر في سنة 1987. نتعرف بشكل واضح على قليل من الجزء الحميمي من حياة خليل حاوي وديزي الأمير. من ذلك إخفاق زواجهما.

على الرغم من الهوة الفاصلة بينهما التي جعلتها الأيام تتسع لدرجة الفراق، ظل هذا الحب مقاوماً للموت الذي كان يتهدده في كل ثانية، بسبب البنية الذهنية لخليل حاوي والمحيط الصعب: «من تكونين لي؟ ولِمَ يعتصر قلبي الندمُ على كل كلمة عصبية وعلى كل نظرة قاسية ندّت منّي ووقعت على وجهك الطيّب الحبيب؟ لِمَ هذا الضنُّ المجنونُ بحبّكِ ورضاكِ، ولِمَ تسحقني نزوةٌ تَهمّ بفصم ما بيننا، لِمَ أنتِ أحبّ إليّ من نفسي، ومن تكونين لي؟ وكأن بيني وبينكِ هوّة لا أنا قطعتها ولا أنتِ انجذبت إليها». لكن ذلك لم يمنعه من التعبير عن كبير حبه لها في كثير من رسائله. «إن الحبّ يا ديزي، كما علّمني غيابك عنّي، جوع لمن نُحبّ وشبع من الآخرين»، كان حباً عاصفاً ومتناقضاً، لكنه كان كبيراً بين قطبي الجنون في الآخر، ومحاولة التخلص من هيمنته.

لكن عين الرقيب كانت تترصد رسائل حاوي المنشورة، وكأنها تعرف مواطن المحو، إذ يبدو أن ديزي الأمير كثيراً ما كانت تتدخل وتحذف ما لا تراه مناسباً للنشر، أي أنها هي نفسها لم تنج من مقص الكوجيتو القاتل بسبب الدائرة المجتمعية القبلية المغلقة. يوم سافر خليل حاوي إلى كمبردج، كتب لها رسائل مليئة بالحنين وحزن الغياب المفروض عليهما. ظلت معها، ويوم نشرتها في الكتاب في 1987، حذفت بعض جملها العارية، مما أثار غضب أصدقائه؟ حتى شقيقه الناقد إيليا حاوي عبر عن استيائه من ذلك، وهددها بنشر رسائلها هي، فاعتذرت. وقالت إنها نشرتها «خدمة للباحثين الذين هم بحاجة إلى مراجع عند دراستهم لحياة الشاعر، لذلك لم يكن مهماً من هي التي كتب لها». رسائلها إذن موجودة في حوزة أخيه (توفي في 2000)؟ لماذا لم ينشرها بدل تحويلها إلى سكينة للتهديد وشحذ الكوجيتو؟ اعتذار ديزي الأمير يؤكد أن الرسائل محفوظة لدى العائلة. كيف يمكن الوصول إليها؟ لماذا لا تُكوَّن لجنة من كبار المبدعين للحصول على النصوص الغائبة لترميم ذاكرتنا الجمعية في أفقها الأكثر حميمة وإنسانية؟ ثم… ما مصير مذكراتها التي كانت تكتبها في آخر عمرها؟

تلك مسالة أخرى أكثر خراباً. كوجيتو الكراهية سرق منا ذاكرة كم نحتاج اليوم من جهد استثنائي لاستعادتها.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي