قنّاصو أورويل: الوقائع كما الطلقات

2023-06-05

صبحي حديدي

كانت الساعة تشير إلى الخامسة من صباح ربيعي مشمس، يوم 20 أيار (مايو) 1937؛ حين تجاهل جورج تنبيهات رفاقه المقاتلين المتطوعين لنصرة الجمهوريين، خلال الحرب الأهلية التي شهدتها إسبانيا أشهر تموز (يوليو) 1936 وحتى نيسان (أبريل) 1939. ولقد خرج بكامل جسمه من المتراس وأشعل لفافة تبغ، فعاجله قنّاص من أنصار الملكيين كان رابضاً في برج الكنيسة المقابلة، واخترقت الطلقة عنقه وتكفلت بإضافة درجة أعلى من البحّة إلى صوته الخشن أصلاً. ولقد نُقل على الفور إلى المستوصف الأقرب، لكنّ طبوغرافية تمركز القوات الفاشية في تخوم برشلونة يومذاك أعاقت علاجه في التوقيت الطبي المطلوب؛ ورغم أنّه لم يلقَ حتفه جرّاء طلقة القناص تلك، فقد لحق بجسده أذى بالغ أفضى إلى وفاته في سنّ مبكرة نسبياً.

ذلك الرجل، المدخّن المغامر الطائش، كان الروائي والكاتب والصحافي والناقد والناشط السياسي البريطاني جورج أورويل (1903-1950)؛ ذائع الصيت القادم من لندن لمؤازرة الجمهوريين ضمن أفواج تجاوزت 40 ألف متطوّع، جاؤوا من 53 بلداً (بينها مصر والمغرب!)، للمشاركة في حرب لاحَ أنها ذات معنى بالنسبة إلى شعوب تدفع عادة أثمان الحروب، وليس إلى قوى حاكمة اعتادت جني ثمار الحروب. واقعة الطلقة والقناص هي واحدة من عشرات يسوقها ج. د. تايلور، بمعنى إعادة استكشاف دلالاتها وليس تكرار سردها، في كتاب جديد بعنوان «أورويل: الحياة الجديدة»؛ صدر بالإنكيزية قبل أيام في لندن، ضمن منشورات كونستابل.

صفة «الجديدة» في العنوان تشير أوّلاً إلى أنّ الكتاب تكملة لعمل آخر سبق أن نشره المؤلف ذاته، سنة 2003، بعنوان «أورويل: الحياة»؛ غير أنها ترسم، منذ الغلاف في الواقع، السمة المنهجية الأكبر في فصول الكتاب الثاني: أنه ليس سيرة لمحاسن أورويل فضائله، بل كذلك لمساوئه وقبائحه… سواء بسواء. وهذا خيار لا يغمط حقّ تايلور في الانفراد بعدد غير قليل من الوقائع التي تُسرد للمرّة الأولى بتفاصيل واسعة، اعتماداً على مقتنيات من الرسائل والمخطوطات والوثائق استجد اكتشافها أو تطوّرت قراءاتها؛ خاصة في أماكن ومواطن وأرشيفات ليست، أو لم تكن حتى الساعة، ضمن الخزين المعتاد المرتبط بشخص أورويل وأعماله.

والمرء يعجب أنّ قسطاً غير قليل من هذه ما يزال طيّ المجهول في المستوى النصّي وإظهار المضمون، وليس من حيث الضياع أو الاختفاء أو التلف. المثال الأبرز، الصاعق في كثير أو قليل، هو أنّ دفتر مذكرات كاملاً صادرته الاستخبارات الإسبانية التابعة للجنرال فرانكو، من أحد فنادق برشلونة حيث كان أورويل يقيم؛ ثمّ انتهى الدفتر إلى محفوظات الاستخبارات السوفييتية التي تكتمت عليه، ويظلّ اليوم حبيس أحد أدراج الأرشيف الروسي من دون سبب يبرّر عدم الإفراج عنه. وقائع من طراز آخر، يحمل مغزى لافتاً، هو أنّ أورويل اختار الإقامة في ستوديو الروائي الأمريكي هنري ميللر في باريس، كانون الأوّل 1936، قبيل سفره إلى برشلونة؛ وذلك رغم أنّ الأخير كان حينذاك غارقاً في العواقب الفضائحية لـ»مدار السرطان»، ولم يكن منخرطاً سياسياً في دوائر اليسار أو الحماس للجمهوريين الإسبان، وهذه أيضاً كانت حال آرائه الفكرية والجمالية.

وقد لا يبالغ المرء إذا ساجل بأنّ تايلور، في كتابه الثاني هذا تحديداً، يمارس طرازاً من «قنص» الحكايات والأقاصيص والوقائع، متسلحاً في ذلك بطرائق تفكيك وتحليل وتركيب تقتنص ما هو خافٍ أو خبيء أو مستتر أو حتى مستور في سيرة أورويل: الكاتب والناشط السياسي، ثمّ الإذاعي والإعلامي في الـBBC أيام عزّ المحطة وذرى سطوتها، أو المعتزل في مزرعة متفرّغاً لتربية الدجاج والماعز وبيع البيض! ولا عجب في كلّ حال، إذْ أياً كان الرأي في حصيلة أورويل متعددة الأجناس والجوانب والمواقف، فإنه يظلّ أحد أخطر شخصيات النصف الأوّل من القرن العشرين.

وقبل سنوات نشر الناقد والأكاديمي البريطاني جون سذرلاند كتابه «أنف أورويل: سيرة مَرَضية»، الذي كان خطير الخلاصات فضلاً عن طرائفه، اعتمد على مركزية الروائح خلال المنعطفات الكبرى، الشخصية والعامة، الأدبية والسياسية، في حياة أورويل. علاقته بالتدخين، الذي وضعه أمام سبطانة القناص الملكي، ولكن أيضاً من زاوية ما يخلّفه التبغ من روائح بغيضة؛ ثمّ سردية الرائحة في «ابنة القسّ»، 1935، الرواية التي تحفل بسلسلة من «الانطباعات الروائحية» التي تضخها الصبية دوروثي أينما حلّت وتنقلت في مشهدية السرد؛ والاستكشافات الأَنْفية في كتابه «الطريق إلى رصيف ويغان»، الذي تضمن تحقيقات سوسيولوجية حول الأوضاع المزرية للطبقة العاملة في يوركشير ولانكشير، شمال إنكلترا ما قبل الحرب العالمية الثانية…

ولا يُنسى، ختاماً، مصير «1984»، رواية أورويل الشهيرة التي عادت إلى الصدارة خلال السنوات الأخيرة فتضاعفت مبيعاتها، في الولايات المتحدة مثلاً، بنسبة 6000%؛ ولم يكن الأدب هو السبب، بل تلك البرهة النادرة حين لا تتطابق المخيّلة الإبداعية مع الواقع الراهن، والصاعق، فحسب؛ بل يحدث أن تكون قد تفوّقت عليه، حين استبصرت الكثير من عناصره ونوائبه. ولا عجب، استطراداً، أن يبقى مالئ الناس هذا محطّ القنص، بالرصاص تارة وبالوقائع طوراً!







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي