أسئلة فانتازية حول الشخصيات التاريخية! الرواية.. تاريخ؟

2023-05-25

إبراهيم نصر الله

في ظني أن السؤال يظلم الرواية ويظلم التاريخ، فإذا كانت الإجابة نعم، فإننا نكون قد حرمنا النوع، وهو الرواية، من كل ما فيه، وفي الرواية فنها وبشرها، وأحلامهم التي لا يلتفت إليها التاريخ كفعل أو حدث، وفيها النمو النفسي والعاطفي، وفيها فلسفة الشخوص وتأملاتهم الداخلية، وفيها الخيال، وفيها اليومي باعتباره قوة تشكل الشخوص، لا مظهراً خارجياً من مظاهر الحياة وحسب. ربما يمكننا القول إن الرواية هي التاريخ الداخلي للعالم وهو يصارع هذا العالم. وغير ذلك، فإنها وثيقة فنية إنسانية بالدرجة الأولى، لكنها تضمر في داخلها التاريخ وتحتضنه، سواء كُتبت عن فترة زمنية بعيدة أو قريبة، أو الآن. رواية تتأمل يوماً واحداً أو 50 عاماً، يمكن أن تكون مرجعاً لفهم التاريخ، وفي ظني أن التاريخ في حاجة لأن يعود إليها إذا أراد أن يفهم مرحلة ما، كما تعود الرواية إليه لتفهم مرحلة ما أيضاً.

هل التاريخ مسودة الرواية؟

التاريخ عنصر إلى جانب عناصر كثيرة تستند إليها الرواية، مثلما تستند إلى عناصر معرفية أخرى تمس الإنسان مباشرة مثل معتقداته الشعبية وحكاياته وأغانيه، تقاليده، مِهَنه السائدة، العناصر التي ساهمت في نهوضه والتي ساهمت في انقراضه، والأبحاث المتعلقة بكل ما حوله من نباتات، وطبيعة، وموت، وميلاد..

فانتازيا: الشخصيّات الروائيّة.. التاريخيّة؟

هناك نمطان من الشخصيات، شخصية ذكرها التاريخ وهي ما اتّفق على تسميتها شخصية تاريخية، وشخصيات يكتب عنها الروائي؛ شخصيات متخيّلة أو واقعية. الآن، يمكن أن نتساءل، هل شخصية مثل شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية محفوظ، أو متعب الهذّال في «مدن الملح» (بعيداً عن الشخصيات الواقعية التي تحمل هذا الاسم)، أو مصطفى سعيد في «موسم الهجرة إلى الشمال» شخصيات روائية أم تاريخية؟ وإذا قلنا إنها غير تاريخية وهي المحرك الأساسي للرواية، فلماذا تكون شخصية تاريخية مثل سعد زغلول شخصية تاريخية، مع أنها تحتل جزءاً صغيراً من الثلاثية، هل أصبحت تاريخية لأن التاريخ كرّمها بوجودها في صفحاته، وشخصية أحمد عبد الجواد غير تاريخية لأن (رواية) احتفتْ بها: ابتكرتها، أوجدتها. ولكن كم حقيقة تاريخية فعلاً موجودة في شخصية عبد الجواد، إن مجموعة وقائع تاريخية على الأرض تكثفت في إنسان، ومجموعة شخصيات حقيقية تجمعت فيه واختلطت بذاته، ولا يستطيع التاريخ أن ينفيها، لمجرد أنه لم يذكرها في صفحاته. هل أمّي التي أذكرها في روايتي الأخيرة وتحضر على امتداد 500 صفحة، شخصية تاريخية أم لا؟ يهيأ إليّ أننا نتعامل في حالات كثيرة مع اليوميين الذين لا تُدوَّن أسماؤهم كشخصيات زائلة، ومع الذين تذكرهم كتب التاريخ شخصياتٍ خالدة. فهل المؤرخ هو الذي يمنح صفة الخلود للشخصية وحده. ماذا عن زوربا؟ آنا كارنينا؟ كارمن في عمل بيزيه؟ هل هم شخصيات متخيلة فقط، لمجرد أنها شخصيات لا تملك شهادات ميلاد (أي ورقة رسمية) من دائرة الأحوال المدنية، مع أن لهذه الشخصيات شهادات ميلاد مستخرجة مِن، أو مستقرة في قلوب وأرواح ووعي ملايين القراء! وهي شخصيات أغنى بكثير من ملايين الشخصيات التي غدت موثّقة من وزراء وملوك وقتلة ورؤساء وزعماء عصابات، ولصوص بنوك مشهورين، وشعراء وروائيين، وإمبراطور اعتلى العرش يومين لا غير. والسؤال: هل الروائيون شخصيات تاريخية وشخصياتهم غير ذلك؟ مع أن زوربا يكاد يكون أشهر من كاتبه، وآنا كارنينا لا تقل شهرة عن تولستوي، ومائة عام من العزلة إذا محوتها تمحو الكثير من أحرف اسم ماركيز فلا وجود له خارجها بحجم وجوده الذي تحقق بإيجاده لها، وهل أصبحت ماري جوزيف روز تاشر دي لا باجيري التي غيّر نابليون اسمها من روز إلى جوزفين شخصية تاريخية لأن نابليون هو مَن أحبها، وبقيت فيرمينا داثا، في «الحب في زمن الكوليرا» شخصية روائية لمجرد أن من أحبها هو فلورينتينو أريثا، الذي خرج من رحم ماركيز الإبداعي، ماركيز الذي أنشأها وسمّاها؟

في رواية «تحت شمس الضحى» يقول بطلها: «كل هؤلاء الذين تراهم في الشوارع أبطال مُضْمَرون، وحتى ذلك الذي ليس له حكاية، مثلك، يمكن أن يستعير حكاية أخرى، حكايات غيره، ليكون بطلًا. حتى أنا أيضًا، لستُ بكاملي، لأنني سواي أيضًا؛ أنا كل من عرفتهم وعشتهم وعاشوني، أنا كل هذا؛ ليس هناك شخص بمفرد ذاته يمكن أن يكون بطلاً، لأنه في الحقيقة كلّ بطولات سواه. حاول مثلاً أن تروي حكاية «النّمر» وحده، أو «أم الوليد» وحدها، «نعمان» وحده، ما الذي سيحدث؟ سيكون كل منهم شخصية رئيسة وأنا الشخصية الثانوية. هل أدركت الآن ما معنى حكاية؟ وكيف يمكن أن تتحول إلى قَدَرٍ مُطلق اليد؟».

الروائي والمؤرّخ؟

ليس هناك مؤرخ واحد، هناك أنماط متعددة من المؤرخين، وهناك أنماط متعددة من الروائيين. مؤرخ السلطة غير مؤرخ الحقيقة، ومؤرخ المضطهِدين غير مؤرخ المضطهَدين، وكذلك الأمر بالنسبة للأدباء، لكن يظل الاختلاف قائماً في وسيلتَي التعبير اللتين تقتربان أحياناً وتُقدِّمان نمطاً مثيراً، وأحياناً تقتربان بحيث تتبّع الواحدة منهما الأخرى. فالرواية تعيد قراءة التاريخ وقول رأيها فيه، والتاريخ يعيد قراءة نفسه ليقول رأيه في أسلافه ومجايليه. وكما للتاريخ علوم تساعده، فإن هذه العلوم نفسها تساعد الروائي أيضاً..

وبالمناسبة، ربما يكون المؤرخون والروائيون أشبه بفرقة موسيقية، أحدهم يعزف والآخر يغني، والآخر يكتب النوتة الموسيقية، وهناك من يخرج عليها متمرداً، مطوراً لها، أو مذعناً لها ومقلداً لا غير.

الروائي مؤرخ؟

هل يمكن القول إن الروائي مؤرّخ مضمر؟ شاء أم أبى، متخفٍّ داخل وسيلة تعبيره، مستنداً إلى اختلافه المتمثل في أن ما يكتبه خيال، ولكن هذه خدعة كبيرة، لأننا كقراء نصدق هذا الخيال ونتفاعل معه ونتأثر به باعتباره حقيقة، نحن كقراء نردّ الخيال إلى أصله حين نؤمن بأنه واقع يحركنا ويؤثر فينا، وأحياناً لا نستطيع فراقه، فنواصل القراء لنعرف ما الذي سيحدث لبطلنا أو بطلتنا، في حين أننا قد نطفئ التلفزيون متوقّفين عن متابعة ما يدور من أحداث تبث على الهواء، وننام أثناء الحرب، مع أننا معرضون للقتل!

لكن الروائي، في الواقع، يعمل كل شيء بنفسه، إنه مضطر لأن يكون باحثاً اجتماعياً، وباحثاً في التراث، ومهندس مدن وبيوت، وعالماً نفسياً، وخبيراً في الزراعة والصناعة والأسلحة بأنواعها، والطيران، ومفكراً، وطبيباً، ومخترعاً، ومختاراً، ورئيس دولة، وقائداً للجيوش، طفلاً يولد الآن، وشيخاً في التسعين، حياً ومستمتعاً بالحياة، وعلى فراش الموت، امرأة ورجلاً، وجنيناً أحياناً. ببساطة لأن الرواية نموذج مصغر للكون.

وبعد:وفي الوهم وهْمُ يُسمّى الحقيقة!






شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي