
شادية الأتاسي
عزيزتي كاترين..
أعتبر نفسي محظوظة بالمشاركة في مشروع ثقافي وإنساني مدهش، معك ككاتبة ومفكرة، على أمل البدء في تجربة نتبادل من خلالها الأفكار. كان لا بد لانجذاب آخر أن يحدث، وأعني صداقتنا التي بدأت تأخذ حيزاً في الحوار.
قرأت رسالتك. بقدر ما هي شفافة، محفزة وغنية، بقدر ما شيدت جسور التواصل بيننا، كفعل إيجابي، بمعناه المعنوي الدافئ والعميق، ليس فقط بين الثقافات المختلفة، بل بين الإنسان والإنسان، ليس سهلا بناء الجسور، يحتاج إلى تربة ودراية عميقة، أقل خطأ فيه يمكن أن يؤدي إلى كارثة.
ها نحن نبدأ التواصل..
خلال المرات التي التقينا بها، تبادلنا حوارا، يمكن القول إنه كان جيدا، بما يكفي للبناء عليه. من المؤكد أننا نود أن نخوض أكثر وأكثر، فلدينا الكثير من الأفكار، الكثير من الفضول لمعرفة خزين الآخر، وسماع صوت ثقافته وذاكرته وتاريخه.
لا شك في أن كلتانا أتت من ثقافة مختلفة، لكن هل هذا يعني نقطة ضعف؟ في رأيي إن في هذا الاختلاف قوة، في زمن لم تعد هناك ثقافة متعالية ولا منكفئة تعيش منعزلة عن الآخر، العالم أصبح قرية صغيرة كل حدث فيها يؤثر في الآخر.
أتفق معك في تحويل موضوع صعوبة اللغة إلى قوة. وها نحن نكتب بكامل الحرية، نطرح رؤيتنا، ونثير مواضيع عميقة، كما يجدر أن يحدث بين كاتبتين لديهما عوالمهما الفكرية والثقافية المختلفة. أتفهم فضولك الجميل، وأرحب به، أعتقد أن الفضول منحة رائعة للإنسان بشكل عام وللكاتب بشكل خاص. أقصد الفضول بمعناه المعرفي، أرى فيه تحفيزا وتحديا وقوة. إن متعة اكتشاف عوالم الآخر، يمكن أن تضعنا في إطار علاقة إنسانية، هي الأصل في التفاهم بين البشر.
الأمر بالنسبة لي أكثر سهولة – ولا أتحدث عن نفسي فقط، بل عن غالبية أبناء بلدي – يمكنني القول إنني على تماس مع الثقافة الغربية، بدأ ذلك في المدرسة، التاريخ الأوروبي كان في منهج التعليم لدينا، وحين كبرت تابعت قراءاتي في التاريخ والأدب والفلسفة الغربية، وكبار الروائيين والمفكرين روسو وبلزاك، تولستوي ودوستويفسكي، سارتر وكامو وغيرهم. بينما نحن كشعوب وثقافة عربية، ما زلنا مجهولين لديكم، ربما هناك أسباب كثيرة حجبت أو أبعدت أو طمست ثقافتنا العربية عنكم، لن أدخل في شرحها الآن، ربما في مجال آخر أو حوار أو رسالة أخرى قد يحدث هذا.
تودين عزيزتي كاترين، أن تعرفي لماذا أنا هنا، بعيدا عن بلدي، وكيف أشعر؟ لقد سألت ببساطة وبمحبة، وأنا سأجيبك أيضا ببساطة ومحبة، مع أن الأمر ليس بسيطا، إنه في الحقيقة أصعب ما يحدث في عالمنا المعاصر.
إنها الحرب يا كاترين.
فهذا الكائن البسيط والمعقد، المعذب والقاسي، الذي هو الإنسان، ما زالت شراسته البدائية، قابعة في أعماقه الخفية، تنبثق بين حين وآخر، ليغدو وحشا كاسرا، يقتل ويعتدي ويغتصب، ويفعل كل ما ينافي الإنسانية التي تبدو وكأنها مجرد غطاء لهمجيته. «في الحرب لم تعد أنت، تفاجأ بأشياء كنت تحسبها ثابتة، يدهشك أن تدرك أنها تتغير، وكم هي الأنا داخلك هشة، سهل اقتلاعها، أمام هجوم عاصف لتحولات كبرى، فرضت نفسها بقوة. الحرب تضعنا أمام ذواتنا، تقول لنا بجلاء: هذا أنتم، تعرفوا على أنتم».
كتبت هذا في روايتي «تانغو الغرام» التي تتحدث عما حدث في بلدي سوريا من آلام وقتل وتهجير. كيف يغدو الإنسان في الحرب إنساناً آخر، لقد قدر لنا، الغرق في أتون حرب دموية غبية، سببها الاستبداد في السلطة، ضد السوريين الذين أرادوا الحرية وثاروا على الظلم. العالم لم يقف معنا، وقف متفرجا علينا.
أكره الحروب، أكره العنف، أكره السياسة. المشكلة أن السياسة هي من تحبنا، تجري في دمنا نحن السوريين، الجميع متورط بها. لماذا؟ قد تسألين؟
ببساطة، لأنها تدخل في مفاصل من حياتنا، بدءا من هامش الحرية الضيق غير متاح لنا، مرورا بالعلم والتعليم، وحتى في الشراب والطعام، الغناء والموسيقى، في الحب والزواج والطلاق. نحن شعب قدر علينا أن نكون مجتمعا خليطا من موزاييك متعدد الأعراق والقوميات والأديان. لكنني أستطيع في الوقت ذاته، أن أقدم نفسي بطريقة حضارية أيضا. فأنا لست امرأة قادمة من الحرب، أنا إنسانة عادية آكل وأشرب وأحب وأحلم وأبكي وأحزن واشتاق… وأكتب، ما علاقتي بالكتابة؟ أنا أنجو بواسطتها. أخوض حربي الناعمة مع ذاتي، وأبحث عن جمال روحي، في بحر متلاطم الموج. أستشف قدرة الكتابة على انتزاع عوالم خفية من داخلي، تأخذني إليها بهدوء واطمئنان. أكتب عن الحب، عن المرأة والرجل، عن الإنسان، الإنسان من الداخل، عن العالم الصعب، عن الزمن، وتلك اللحظة الهاربة التي لا تعود. أكتب الشعر، يشجيني تغريد عصفور، ويُفرح قلبي انبثاق وردة في الصباح، أكتب عن بلدي سوريا، عن الحرب والظلم والقهر، عن ذاكرتنا التي ثقبها الإحباط والهزيمة، عن الانقسام والتردي، عن الأحلام التي تموت، عن الموت المجاني. فالموت في بلدي لا يشبه الموت في بلد آخر، يخلع كفنه، ويرتدي الانكسار والهوان والتمزق، البؤس والغضب، الشروخ والانقسامات.
يبدو أنني لا أستطيع الخروج عن موضوع بلدي، وأسمح لنفسي أن أجزم أنه يعني لك شيئا. لقد وصفت نفسك بأنك إنسان يجيد الإصغاء للآخر، وأنت فعلا كذلك، لقد أصغيت إليّ بتفهم وهدوء، وقرأت بدهشة وافتنان الكثير عن قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان هنا، فسويسرا مأوى لكثير من المهاجرين الذين شردتهم السياسة والحروب. وتابعت بإعجاب انسياب الحياة في بلدكم بدقة متناهية، وما يتمتع به الناس من الغنى والوفرة. هل هي فعلا كذلك؟ أم أن الأمر أكثر تعقيدا؟ أتساءل أحيانا. أصبحت سويسرا تعج اليوم بالغرباء المهاجرين، هل أحدث هذا شرخاً عميقا وانقساما في الرأي على مستوى الشارع أو الأحزاب والحكومة؟
تتساءلين عن تأثير مدينة لوزان في كتابتي؟
أنا منخرطة الآن في كتابة رواية أكاد أنتهي منها، لمدينة لوزان الدور الأول في أحداثها، فأنا أبحث عن ذاتي في مدينة أحاول أن أنتمي إليها، ربما التركيز على الذات ليس بالأمر الجيد، إلا أنه يمكن التكفير عن ذلك بأنني أجعل من نفسي موضوعا للتجربة والبحث. كيف أواجه تحدي حياة وثقافة ولغة مختلفة؟ كيف يمكنني تجاوز مشكلة الاختلاف؟ لكن هل يمكن تجاهل مسألة الحنين؟ كيف أكون موضوعية أمام مدينة تبهرني بجمالها، وأنا أسيرة قوانينها، قد لا أنصفها حين أتحدث عن وطأة الروتين الذي لم يمنحني حتى الآن إقامة دائمة، تمنحني الإحساس بالاستقرار والهدوء.
هذا يعني أشياء كثيرة…
يعني أنها المحنة التي تكشف عن العوز الأبدي الذي يلازم الغريب، الذي انتقل إلى فضاء غير فضائه، إنما يغدو في ضيافة الغربة في مدينة ساحرة الجمال.
آمل أنني أجبت على بعض من أسئلتك عزيزتي كاثرين.
كاتبة سورية