
سهيل كيوان
تترك الفجوات في النصوص الأدبية مساحة لإثارة فضول القارئ، وأحياناً لتمنحه متعة مشاركة الكاتب في سدّ هذه الفجوات، ولكنها قد تكون واسعة أو عميقة إلى حالةٍ يصبح فيها من الصعب على القارئ ردمها، ووصل أطرافها بعضها ببعض، فتبدو النُّصوص كأنّها ليست من رحم واحد، قد تكون كل واحدة منها جميلة بذاتها، ولكنك لا تجد علاقة القربى والنسب فيما بينها إلا بعد لأي، فتبقي القارئ في حالة ضبابية، هل هو أمام عمل روائي متكامل، ليس فيه زيادات هفَتْ إليها شهية الكاتب، فتظهر كندبات داخل النصوص، أم لا بدّ وأنّ فيها ما يوثّق أواصر القربى وصلة الرحم مع النّصوص الأخرى، فيصبح إلغاؤها أو تجاهلها منقصةً.
باعتقادي أنَّ القارئ يُحبُّ الفجوات القريبة إلى مستواه المعرفي، تدغدغ أنويّته، وتمنحه شعوراً بالذّكاء والمعرفة والقدرة على ربط خيوط العمل الروائي بعضها ببعض، ومتعة المشاركة في إبداع النصّ.
الكاتب القصصي والروائي الفلسطيني خليل ناصيف يبذل جهداً يُحسب له في الابتكار، فهو يهرب من فخِّ التقليد، كهروب قطّةٍ من ماء بارد، سواء في الشّكل، أو في المضامين التي يعالجها، ويندر أن تجد في نصوصه تشبيهاً أو استعارة أو تورية سبقه إليها أحدٌ، فهو مُبتِكر ومن حقِّه أن يختمها بختمه.
خليل ناصيف من رام الله، يتعامل مع الكلمة بقلقٍ وحذرٍ شديدين، يمنح كل كلمة خصوصيتها ويحتفي بها، أحياناً بحرصٍ مبالغٍ فيه، هكذا في كل فقرة وفصل من روايته (دومينو) 2022 منشورات إبيدي-مصر.
خليل يحمل رسالة اجتماعية، فهو ينظر بعيني ناقد سياسي واجتماعي غاضب إلى كل ما حوله، يرى ما يراه جميع الكتاب والمثقفين وعموم الناس في فلسطين، ولكنه يمتاز بجرأته على التعبير عن ما يدور في ذِهنه، فهو لا ينتمي إلى المتظاهرين بالعمى الحليبي، وقد يُحاسِب نفسه ويلطم رأسه إذا صَمَت، فيخشى على نفسه من السُّقوط في مجاملة أي تيار سياسي أو فكري ،وخصوصاً التّيارات المسيطرة اجتماعياً وسلطوياً، هذا جعله يبدو شاذاً عن القاعدة العريضة من المثقفين الذين يراوغون، ويبحثون عن الطُرق الأسلم، ويتحدّثون بلسانين وشخصيتين، مع السُّلطة وضدّها في آن، بعضهم كي يربح العالَمَين، وبعضهم خشية ردود فعل لا طاقة له على مواجهتها.
تبدو كتابة خليل ناصيف كوحدات منفصلة بعضها عن بعض، كل وحدة كقصة قصيرة في ذاتها، تحمل إشارات وأحياناً رموزاً سرّية، تربطها مع غيرها من النصوص الأخرى.
تشعر بإطلالات على حافة الهذيان، خصوصاً في الصُّور التي يستحضرها بهدف إثراء النصوص وتقميشها.
مثل «نظرات الإعجاب من قبل سهى الجميلة تجاه شاب بأنف إجاصة، جعلتني أسبح في حساء زهري». ص59
أو «أين أمك يا مرح؟
-أمي ميّتة، خاضت عراكاً مع نورس شرير وماتت، ثم أخذ غرابٌ طيِّب جثتها إلى السماء البيضاء فوق سمائنا». ص62
كذلك «نزلتُ إلى الماء، غمرني ضوءٌ لازوردي ضعيف، شاهدت مرحاً وورداً يمتطيان ظهر أنثى حوتٍ أزرق، يرافقها صغيرٌ يضع نظارة ملوّنة». ص 117 والكثير جداً من هذا.
يضعك أمام تحدي البحث عن الخيوط التي تربط الأحداث والشخصيات والأزمنة الكثيرة بعضها ببعض. أعتقد أن القارئ العادي لا يفضل أن يضيف إلى أعبائه اليومية عبء البحث عن الخيوط التي تربط أحداث رواية وشخصياتها وأزمنتها بعضها ببعض.
في الوقت ذاته، خليل ليس من النوع الذي يكتب للنقاد أو لنخبة من المثقفين بهدف الاستعراضات الذهنية، بل يرى نفسه في مواجهة مع النخبة الثقافية الفلسطينية، لكنه لا يسعى إلى التبسيط أو الشعبوية، فيكتب ما يشعر ويحدس بأنّه جديد وجيّد، يدلي من خلاله بمواقفه من مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية.
يتجنّب الهمّ الفلسطيني العام والاحتلال، وهذا يمكن ملاحظته من بعيد، فهو يركّز أكثر على الذاتي، وقد يرى في إطعام قطة أمراً أكثر إلحاحاً من حدث سياسي، يصوِّرُه الآخرون كحدثٍ ذي أهمية تاريخية.
خليل يحمل مطرقته ويكسِّر القواعد والقوالب، ويصرخ في نصوصه: أنا لي شخصيتي الفنية المستقلة، أنا أبدع روحاً مختلفة، لم تعرفوها من قبل.
يبدو مثل فوضوي منشغل في عملية هدم متواصلة، فهو يرى حاجة مُلحّة إلى التجديد في كل شيء.
في راويته «دومينو» التي تأتي بعد رواية «نانا» ومجموعتين قصصيتين، يؤجّل الإجابة عن تساؤلات يتوقَّعها من القارئ، ويرغمه على واحد من خيارين، إما التركيز بجدّية تامة لمتابعة التسلسل السَّردي وتداعيات حجارة الدومينو، أو التشتت ومن ثم التوقف عن القراءة، على أمل العودة برغبة أكبر، أو إلقاء الرواية فوق رزمة الكتب المحكومة بالانتظار.
أحياناً يكون مزاج القارئ نفسه عائقاً أمام القراءة، ويحتاج إلى أكثر من محاولة للقفز عن حواجز تفصل بينه وبين روح عمل أدبي ما، هذا حدث لكثيرين مع روايات عالمية.
قرأت أكثر من مرَّة اعترافاً من كتّاب ومثقفين، بأنَّهم لأول وهلة لم يستمتعوا في رواية عظيمة مثل مئة عام من العزلة، وأعادوا محاولة قراءتها، لأنَّ هنالك إجماعاً نقدياً على روعتها وخصوصيتها.
قد تُرهق القارئ عملية وصل الخيوط بعضها ببعض، ولكنها تفاجئه بأن ما بحث عنه موجود، وعليه فقط أن يكون صبوراً، وأن يثق بالكاتب الذي سيقدّم الأجوبة على تساؤلاته وإن تأخر بعض الشيء.
يعيش الكاتب مع حالات شخصياته النفسية، فلكل منها جوانب خفيّة ترافقها منذ طفولتها، وحتى قبل ولادة بعضها، تحتاج إلى تركيز كثيف وصفاء ذهني كي تستطيع فهم منطقها ودوافعها، وهذا تحدٍ كبير لقارئنا المدلّل الذي يحبُّ السُّهولة والتبسيط، ويضيق ذرعاً بالشطرنج الذّهني، ويسرع إلى الصُّدود عنه، مثل (ديما) التي نتعرّف عليها وهي جنين في الشهر الخامس في رحم والدتها التي تتعثر وتكسر ساقها أثناء العمل في تأسيس بيت للأسرة، لتوفير أجرة عامل على زوجها.
كذلك التنقل الكثير في التواريخ والأمكنة والشخصيات والفصول.
كأنّ الكاتب يرافق المخرج والمصوّر يطوفون بين لوحات من الماضي والحاضر، يلتقطون منها أحداثاً لمسلسل روائي.
هنالك عدد كبير من الشخصيات والأحداث والمواضيع، تحتاج إلى جهد كبير لتجميعها للتمتّع باللوحة الكبيرة، فهي تشبه عملية تركيب بازل من مئات القطع الصغيرة، تقع مهمة جمعها على القارئ، وهذا يستدعي صبراً كبيراً وحبّاً استثنائياً للقراءة وللكاتب.