
صبحي حديدي
العلاقات بين المسرح والعمارة، المفاجئة من حيث الترابط والتفاعل المشترك والصلات الملموسة؛ هي موضوع كتاب جديد بعنوان «المسارح والمخيّلة المعمارية»، صدر مؤخراً بالإنكليزية عن منشورات راوتلدج، بتحرير ليزا لاندروم وسام ريجواي. فصوله الـ20 تتناول سلسلة متنوعة من المسائل ذات الصلة بفنون المسرح وفنون العمارة، بالطبع، ولكن من نقاط انطلاق مبدئية تتمحور حول الجسد البشري والكتلة البصرية، وكيف تشعبت تيارات الكتابة المسرحية وتعدّد المسرحيون في توظيفهما منفردتَين ومتصلتَين، على أصعدة المخيّلة؛ وثمة نتائج مذهلة حقاً، خصوصاً لمشاهدي المسارح العاديين، غير المتمرسين بالضرورة في تعقيدات الديكور والمشهد والإضاءة وسواها من عناصر على الخشبة أو في خلفياتها.
بهذا المعنى، ولأنّ هذه السطور تنتمي إلى فئة المشاهد العمومي، ثمة في الكتاب مساهمة محددة كانت الباعث وراء هذا العمود؛ هي الفصل الخامس الذي جاء بعنوان «ديناميات لوكوك الإيحائية في خدمة المعماريين»، وكتبته الإيطالية لورا جيويني، المعمارية والفيلسوفة والمحاضرة في بوليتيكنيك ميلانو للعمارة وفي جامعة بارما. وكان الفرنسي جاك لوكوك (1921-1999) ممثل ومدير خشبة اشتُهر بطرائقه المميزة، والمتميزة الرفيعة، في المسرح الفيزيائي وتحريك الأجساد والتمثيل الإيمائي الصامت؛ وثمة خصوصية لافتة في أنّ جيويني تتوقف عند علاقات التعاون بين لوكوك والمسرحي الإيطالي الكبير داريو فو (1926-2016)، نوبل الآداب لسنة 1997.
تلك، في رأيها علاقة فريدة إيطالية/ فرنسية على نحو ما، أنتجت أكثر من طراز واحد لتجديد المخيّلة المعمارية، بالتضافر الوثيق مع أساليب الأداء الصامت وتفعيل طاقات الجسد وتوظيف عناصر خشبة المسرح كافة. ثمرة التعاون من خلال مسرحيتَيْ «نكزة في العين»، 1953، و»جدير بالتقييد»، 1954؛ تضمنت غمزة عالية القصد تجاه مسرح المنوعات، فنية وسياسية معاً، حيث اقترح الثنائي فو – لوكوك لوحات (من طراز أقرب إلى ما سيسميه الرحابنة «سكتشات») ساخرة وصاخبة، مبطنة قليلاً في منحاها السريالي؛ هادفة، بما لا يقبل التبطين هذه المرّة، إلى تقويض عدد من الأساطير الأشدّ رسوخاً وتكريساً في التاريخ والمجتمع المعاصر. وفي العملين، تكتب جيويني، توفّر مقدار خصب من التكامل بين ديناميات بعثرة الفضاء المسرحي والديكورات كما أرادها فو على الخشبة، وبين الانضباط الكوريوغرافي والتعبيري لأجساد الممثلين كما أدارها لوكوك.
وللمرء هنا أن يتذكر تلك الصيغة الكوميدية المبتكرة العجيبة التي اختار فو أن تأخذها محاضرته ساعة استلام جائزة نوبل، وإلقاء المحاضرة المعتادة؛ حيث يُنتظر من الفائز أن يقدّم خلاصة تجربته الشخصية في حقل نشاطه الإبداعي أو العلمي أو العملي الذي استحقّ عليه الجائزة. كما جرت العادة أن تحتوي المحاضرة على «رؤيا» فلسفية من نوع ما، تغطّي واقع وآفاق ذلك الحقل من النشاط وتدخل في أرشيف الأكاديمية الرسمي كوثيقة أساسية. آنذاك، وبدل المحاضرة الموعودة، وصل فو متأبطاً 25 رسماً كاريكاتورياً، أنجزها بنفسه على طريقة الرسوم المتحركة، واختصر فيها مراحل حياته الفنية، ومواقفه الأخلاقية والفلسفية، والمحطات التي مرّ بها وهو يشيّد أركان تجربته الفذّة كمسرحي مهرّج ساخر من «بَلاط» المؤسسة على اختلاف أنماطها. ثمّ وزّع تلك الرسومات على أعضاء الأكاديمية بوصفها… محاضرة نوبل للآداب ذلك العام!
جدير بالاستذكار، أيضاً، حوار مع صحيفة «لوموند» الفرنسية كرّر فيه فو اعتزازه بأن يحمل لقب «ملك المهرّجين» والمشعوذين والمحتالين، الذين سخروا من البلاط الملكي في العصور الوسطى وثأروا للعامة والفقراء، وردّوا لهم كرامتهم. وقال إنه في ذلك يستلهم تراث أستاذه المهرّج الإيطالي الكبير روزانتي، «الذي لا يرقى إلى مستواه الكوميدي سوى أناس من أمثال موليير وشكسبير»، والذي تعلّم منه طرائق «تدمير وإعادة تعمير اللغة، واستخدام الكلمات التي لا توجد في أي قاموس آخر سوى ذاك الذي يبتدعه الشارع المقهور». ولن يطول الوقت حتى اهتدى النقد المسرحيّ إلى المصطلح الذهبيّ الذي يليق بهذا الفنّان الكبير: سيّد «التهريج الملحمي»!
وإذ كان فو قد استحقّ جائزة نوبل بكلّ ما ينطوي عليه ذلك الاستحقاق من معانٍ، فإن صياغة حيثيات القرار لم تكن أقلّ انطواءً على ما يدهش، بل ويدهش كثيراً في الواقع. فالأكاديمية اعتبرت أنّ فو «اقتفى خطى مهرّجي الملوك في القرون الوسطى، وألهب السلطة بسوط النقد، مسترداً بذلك كرامة المهانين والضعفاء». وتابع البيان يقول: «إذا كان من شخص يستحقّ صفة المهرّج بالمعنى الحقيقي لهذا التعبير، فإنه داريو فو. وبمزيج من الضحك والرصانة فتح أعيننا على مفاسد المجتمع ومظالمه، وكذلك على المنظور التاريخي العريض الذي يمكن أن تُوضع فيه. وأعمال فو متعددة الأوجُه تبرهن على أنه فنّان ساخر، ولكنه بالغ الجدّية في الآن ذاته. واستقلال رؤيته وصفاؤها دفعاه إلى مجازفات خطيرة، عانى مباشرة من عواقبها، ولكنها في الوقت ذاته كفلت له استجابات هائلة في أوساط عريضة مختلفة».
وليس خارج سياق منطقي، مطلوب وضروري وحيوي، أنّ أعمال النقد المسرحي المتعاقبة تواصل إنصاف فو عن طريق اقتفاء سُبُل في فنونه المسرحية لم تُستكشَف بعدُ كما يليق بها؛ وأن تتقاطع الجهود مع ميادين تثمين أخرى تبدأ من إيماء لوكوك التعبيري، وتمرّ بلسان فو اللاذع، ولا تنتهي عند… مخيّلة التعمير والعمارة!