«خزامى» رواية سنان أنطون الجديدة… عن سعينا لنكون مواطني بلدان أخرى

2023-05-03

حسن داوود

بمحض الصدفة، أو قبولا بالكذبة التي تسرّع اللسان بنطقها، صار الشاب عمر، العراقي، يقول للأمريكيين أنه من بورتوريكو. أدرك منذ وصوله إلى بلادهم أن عليه ألا يُفصح عن المكان الذي قدِم منه، وقد ازداد ذلك إلحاحا بعد أن أُسقط البرجان وتحوّل كل مشتبه في انتسابه إلى الفاعلين متّهما. بدأ ذلك بمحض المصادفة إذن، في ظنه أن البورتوركيين يشبهون العرب في الشكل. لكن مع تعرّضه للسؤال المتكرّر: من أنت، ومن أي بلاد، صار عليه أن يعرف أكثر عن وطنه البديل المزعوم: موقعه الجغرافي، مساحته، تاريخه وحاضره، لغته وعدد سكانه، إلخ. ففيما هو يعمل ما وسعه ليكون أمريكيا عليه أن يخترع، في الوقت نفسه، المكان المناسب الذي أتى منه. فقط لعراقي آخر، صديقه عقيل مثلا، يمكنه أن يقول أنا عراقي. أما مع النساء الثلاث اللواتي أقام علاقات معهنّ، واحدة إثر واحدة، فكان يكرّر ترداد إجاباته البورتوريكية. فقط حين قطع شوطا كافيا نحوأمريكيته، مبتعدا بالقدر ذاته عن عراقيته، أمكن له أن يفصح للمرأة الأخيرة أنه قدم من العراق.

عُمَر هذا ليس وحده بطل رواية «خزامى» هناك رجل آخر يقاسمه بطولتها هو سامي الهارب أيضا من العراق إلى أمريكا بعدما أرهقته الضغوط التي مورست عليه من قِبَل أولئك الذين ورثوا، بواسطة الأمريكيين أو بسببهم، السلطة على العراق. هو، الطبيب الجرّاح، سيحلّ ضيفا في منزل ابنه وزوجة ابنه، لكن لم يتعدّ تقاعده المريح في أمريكا فترة الوصول الأولى إليها. فها هو يظهر في بداية الرواية ضائعا غير عارف أين هو، وأين مكان إقامته، ومن أي بلد جاء.

الرواية التي بدأت من حادثة خرفه الأولى ستعيدنا إلى ماضيه، مرّة بعد مرّة، لتعود فتستأنف متابعةَ التحوّلات العقلية والنفسية والنطقية والضياع المصاحب لكل ذلك. الطبيب سامي، اللاجئ كهلا إلى الولايات المتحدة، لن يتاح له أن يقابل بين عيشه فيها وعيشه هناك في العراق، إذ في تلك الفترة الأخيرة من حياته، لم يجد نفسه في أيّ منهما. تنطبق عليه الجملتان التقديميتان اللتان اقتبسهما كاتبه سنان أنطون من باتريسيو غوزمان: «أولئك الذين يمتلكون ذاكرة يعيشون في الماضي الهشّ، والذين بلا ذاكرة لا يعيشون في أيّ مكان». هذا مع أن عبارة «الهش» لا تنطبق على ما حمله ذاك الطبيب، كما ذاك الشاب، عمر، من العراق. ذاك أن القسوة البالغة المتخطّية حدّ التعذيب والقتل الجماعيين ليس بمقدور تلك العبارة حملهما. ما نقف عنده أكثر هو ذاك القرار الرسمي بنزع الأذن اليمنى لمن يفرّ من الجندية، وأن توشم جبهته، وأن يُرمى في السجن لسنتين تامتين. عمر ذاك كان عليه، لدى وصوله إلى أمريكا، أن يسعى إلى إعادة شكله طبيعيا عبر عملية جراحية تجميلية، ثم عدم تكيفه مع هيئته بعد أن اكتملت. وهذا نضال ثان كان عليه خوضه، إضافة إلى النضال الأول الذي تمثّل بإخفائه هويته. محوران للسرد قامت عليهما رواية الخزامى: أُذُن عمر المنتزعة، وتلاشي ذاكرة الطبيب سامي. مع هذا الأخير استطاع الكاتب أن يجعل الكلام عن الخرف دائم الفيض، متنقّلا بأزمنة مراحله، حيث حينا يشتد وحينا يعتدل. في المراحل الأخيرة منه راح الكاتب ينقل حوادث عابرة لكن قوية الدلالة على ما بلغه الخرف. هي مجرد جمل قليلة، لا تتعدّى فقراتها السطر الواحد أو السطرين، فيما مجرى الرواية مستمر بسرده التفصيلي. كأنّ الكلمات القليلة، القوية الدلالة، تشير إلى الاحتضار، احتضار النفَس أو احتضار الروح، وليس فقط التلاشي الكامل لعقل الطبيب وذاكرته.

أما في ما خصّ الشاب عمر فإن الحياة سارت ضمن مجرى عادي بعد أن كانت الرواية قد أ،لقت بثقلها (حول أُذنه المنزوعة) في صفحاتها الأولى. بعد أن تمكّن عمر من إجراء العملية بدأت حياته تتجه إلى تصليب إقامته في أمريكا، بالتأقلم مع ما تتيحه الحياة العادية. بدا ذلك أحيانا، لنا قرّاء الرواية، كما لو أن البناء الدرامي، ودائما في ما خصّ عمر، جاء مقلوبا، أي أنه أعلن عن ذروته منذ البداية، ثم راح يعالجها ويعالج آثارها في ما تلا من وقائع وأحداث. على أيّ حال، مع القسم المختص بعمر من الرواية، كان الزمن الحدثي يتقدم ويتأخرّ، تقدّما ورجوعا، على غرار ما كان عليه الحال مع الطبيب سامي، ما يجعل بداية الرواية ونهايتها جارية على سطح زمني حيوي ومنبسط معا. هما إذن بطولتان في رواية واحدة. غالبا ما يتساءل قارئها متى سيلتقي هذان الشخصان في ما التقدّم بالرواية لا يفتأ يباعد بينهما. أو يتساءل القارئ عن صلة هذا بذاك، طبعا مع علمه بأصل المأساة التي أدت إلى ما حدث لكل منهما. ذاك الترقّب للقائهما معا، أو لمآل مأساتهما في الرواية لن نبلغه، كقرّاء، إلا عند نهاية الرواية حيث يلتقي الاثنان في لقاء صادم يتعرف فيه أحدهما على الآخر. هنا في هذا اللقاء نعرف أنهما مشتركان فعلا، لكن بكونهما ضحية لجريمة واحدة: الطبيب سامي أجبر تحت التهديد العنيف على إجراء عملية سلخ أذن عمر من مكانها، وذلك بعد غياب الطبيب الذي كان عليه القيام بذلك.

رواية سنان أنطون «خزامى» صدرت عن دار الجمل في 252 صفحة- سنة 2023.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي