أنصاف الحلول في رواية «هروب» لعبد الرزاق قرنح

2023-04-14

صالح الرزوق

يقدم عبد الرزاق قرنح مشروعا استعاديا لتفسير مشاكل الحضارات النائمة، ويبتعد ما أمكنه عن منطق الحضارة الجريحة (أسلوب سلفه نيبول). والحقيقة أن منطق نيبول اللاتيني يبدو أقرب للتصالح مع الغرب. وإن اختار لبعض شخصياته أن تحارب في المشرق، فهذا فقط ليضعها بالنتيجة أمام جدار قدرها، وهو اليأس، والمطالبة بالاندماج، حتى إن وهم المساواة لم يطرأ على ذهنه، وراوح كل الوقت بين المغالبة والإقرار بالخسارة (بمعناها العسكري – الشعور بالعجز وإلقاء اللوم على النوع). بينما كانت شخصيات قرنح قلقة وغامضة، ويمكنها أن تحتار لكن لا أن ترفض، ناهيك عن الإقرار بضرورة الثورة أو التحرير.

وفي واحدة من أهم رواياته الوسيطة وهي «الهروب – Desertion» قدم عدة أصوات غربية وافريقية لتسليط الضوء على مفاهيم سائلة مثل الحداثة والاستقلال والمعرفة والمجتمع وسوى ذلك. تبدأ الرواية من اكتشاف حاسانلي لجثة بيرس، ثم تذهب بعدة محاور لتتابع تفاصيل حياة الاثنين. واعتمد لهذه الغاية على نقطتين..

1- إدارة الحوار بين أنداد، وكانت النقاشات تدور بين ذكور استعماريين لديهم تصورات عن استغلال القرن الافريقي والأراضي المجاورة (امتد نطاق الرواية من الهند وسلطنة عمان شرقا وحتى أوغندا وزنجبار غربا، أو بين مواطنين محليين.

2- التركيز على الشأن الحضاري وليس السياسي ولا التاريخي، وإذا قدم عرضا مفصلا لتاريخ زنجبار، فقد تناوله من الأعلى، وحرص على ترك المهمة لكل من مارتن أو بيرس – مغامر ورحالة يحمل اسمين. وفريدريك – مزارع ومستوطن. وكان مارتن من طرف القوة الناعمة واستخدام طرق الترغيب وليس البطش والعنف، ويعتقد أنه «سيأتي وقت ويرى الغربيون أن أفعالهم ليست بطولية، وأنهم أقل جمالا من سواهم». وعلى هذا الأساس تدير الرواية علاقة مارتن مع ريحانة، فيبتزها جسديا ثم يشعر بالعبث واليأس ويفر منها عائدا إلى «مملكته السعيدة» على حد تعبيرها. وريحانة أخت التاجر حاسانلي، وهو ممثل لعصر الانفتاح، ونموذج للاقتصاد الصغير والاستهلاكي، أو أنه نخاس صغير ضمن آلة استغلال وعقوبات كبيرة. في المقابل يعتقد فريدريك أن الأرض لا تقدم نفسها لأحد طواعية.

وجريا على عادة قرنح يقدم في روايته أنصاف حلول فقط، حتى أنه لا يُكره أحدا على شيء، لكن يوظف كل الطاقات المحلية المتاحة في خدمته. ويمكن القول إنه أنشأ مجتمعا أوتوقراطيا تستسلم فيه الأغلبية لطرف واحد (حتى كلمة الأقلية تبدو ترفا مستحيلا). ولذلك يقول: «علينا أن نقودهم ليعودوا للانضباط تدريجيا». وتذكرني هذه الحالة بوضع ميراندا بطلة رواية «في بلاد الآخرين» لليلى سليماني. فهي صورة نسائية من بيرس، الشخصية التائهة في رواية قرنح.. كلاهما ينظر للأرض على أنها هبة من الرب لكنها غريبة، ويخشى أن ترفض مشروعه الاستعماري، وإن استسلمت ميراندا بالنتيجة للقلق الشرقي وآمنت به فإن بيرس يهرب منه. وليمرر قرنح هذه الأفكار اختار أسلوب المذكرات (فالرواية هي مذكرات رشيد). لكن قدمها بشكل فصول كل واحد منها ينقل صوت إحدى الشخصيات ووجهات نظرها وبضمير الغائب. لكنه قيد صوت الرجل المحلي بشكل ملحوظ (وهذا الكلام ينطبق على رشيد مدون المذكرات وعلى أخيه أمين، وكذلك على حاسانلي – نموذج المواطن المحلي البسيط). ويمكن أن تقول إنه فرض على الرجل المحلي وعيا منزليا يعلو فيه صوت النساء. ولذلك كان الرجل سلبيا بمعنى أنه محروم ومحاصر passive والمرأة إيجابية، تعرف واجباتها، وربما أسقط معنى البيت على معنى الوطن، وكان يستعمل المصطلحين بالتبادل ليدل على المفهوم نفسه (كقوله home وland).

لا شك في أن الرواية تدخل في عداد أعمال الصدام بين الشرق والغرب. وتحشد مجموعة من التمثيلات الذهنية مثل إلزام الرجل الشرقي بالحركة في أرض محدودة (المتجر والبيت – حالة حسانلي- أحيانا المسجد لينادي منه إلى الصلاة وهو المنفذ الوحيد لتحرير الروح واستعباد أو قهر الجسد) أو إضفاء معنى الرجولة على المدينة ومعنى الأنوثة على القرية، وهي حيلة استشراقية بدأت منذ أن كتب ماسينيون سيرة المتنبي وفرض عليه السفر بين عدة محطات للتبشير بآرائه الثورية. وقد سارت ريحانة على خطواته وتبعت وحيها أو إلهها (وهو مغامر ذو وجوه متعددة يظهر باسم بيرس ثم باسم مارتن- ويأخذ دور رب خالد ولا يفنى – ويرمز بذلك لعودته من الموت في بيت حاسانلي، وانتقاله إلى بيت فريدريك – وأخيرا مع ريحانة إلى منزله الاستعماري في مومباسا). وكان في كل هذه المحطات يركز على استمرارية الرسالة الحضارية للنوع الأقوى، دون تحديد لأي عرق أو شعب، وكأنه شيء متحول، يدخل في دورة حياة كاملة، ويتناوب عليه طور الموت والعودة إلى الحياة. وقد عرّض الطبيعة – الأرض للغبن مرتين، لأنها كانت مشروعا استثماريا (لما اصطلحنا على تسميته بالغرينغو – بالاستعارة من أمريكا اللاتينية التي تنظر للشمال وكأنه فرد واحد أو صنم أبيض يتصف بالتعالي وقوة الشكيمة والأنانية، أو مزنغو بلغة قرنح) ولأن الحبكة أغفلت مشكلة التضحية بالبيئة، وتبديل معالم الأرض والحياة عمدا لتلحق بركب الحضارة الغريبة (والبيئة تشمل الوجدان الإنساني الذي لحق به «التشوه والتغريب وإعادة ترتيب تفاصيل حياته» سواء من ناحية الشكل ومقاييس جمال المرأة ووسامة الرجل، أو من ناحية الأخلاق وأسلوب الحياة، والكلام لمايكل ألبيرت «مقالة في ZNet 2023») ما حدا بنادين غورديمر أن تقول عن هذه الرواية إنها «رؤية لنطاق واسع من العواطف والعلاقات بين المستعمِرين وخريطة بلدان كثيرة ورد ذكرها». ولا يمكن أن تفوتني هذه الإشارة الغامضة.. أن الموضوع بين أضداد حصرا، بشر وطبيعة، أو طبائع إنسانية وأرض مهملة. وإذا اتفقنا على أن الرواية تنضوي تحت مظلة الروايات بعد الاستعمارية (وأفضل مصطلح روايات حروب الاستقلال) فقد اختلفت عنها في عدة مسائل..

أولا، أنها نأت بنفسها عن الأعمال العسكرية والغارات وحروب الشوارع، ما يضعها في عداد الحبكات المسالمة أو القصص البيضاء، لتمييزها عن القصص الدموية.

ثانيا، لم تتناول لا الإضرابات ولا المظاهرات، وكانت حياة الأشخاص هادئة وتخضع لقانون الكسب المشروع أو الاقتصاد الاستعماري.

ثالثا، لم ترسم ولو صورة واحدة لثائر أو متمرد يطارده المحتلون، واكتفت بتصوير مظالم اجتماعية وحياتية عامة تطرأ بالعادة في فترات التحويل الاقتصادي، ولذلك تستطيع أن تلاحظ بوادر التململ والتهيؤ للثورة، دون أن تصورها علنا.

رابعا، يعبر الأسلوب بلغة ميتة عن شكل تجريبي حي مثلما هو حال كل الروايات المهاجرة، ولاسيما أن المشكلة تشمل ذاكرة قديمة وهوية جديدة، وحتى إذا رفعت الشخصيات صوتها بهجاء الاستعمار فاللسان لا يخالف اللغة الاستعمارية من ناحية القواعد والتراكيب، ولا يصل بها الأمر لنقطة اللاعودة كما هو الحال في الرواية الأسكتلندية التي ظهرت في الثمانينات وما بعد على يد جيمس كيلمان ورفاق دربه،

صدرت الرواية عن دار بلومزبري 2005 ـ لندن 272صفحة.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي