الوحوش لا تعرف طُرُق العودة

2023-03-30

إبراهيم نصر الله

حين ينفلت الوحش لا توجد فرصة لكبح وحشيته، إذ سيؤسس دائماً موعد انطلاقه لوحشية أفتكَ؛ فكل ما في الأمر أن وحشيته كانت سابقة على انفلاته، تأسست وأصبحت سِمة من سماته، تصاعدت يوماً بعد يوم من قبل ميلاده حينما كان فكرة، فتجسدت بمخالب وأنياب وبنادق ورشاشات إلى أن وصلت إلى حريتها الطليقة في أن تلتهم من تلتهم وتجتاح ما تجتاح.

من تخيل يوماً أن الكيان الصهيوني قابل للتخلّي عن أظافره وأنيابه، بالغ في وهمه وفي سذاجته، أو تسلح بهما ليكونا عذرَين من أعذار تذللـه واستعداداه لتجميل صورة الوحش وهو يحتضنه.

ليس هناك مجال للتذكير، فكلنا نتذكر، ومن لا يملك ذاكرة يذكِّره الوحش نفسه بذلك، كما يذكِّر العالم كله اليوم، العالم المتغافل، أن الأردن، مثلاً، كما يدّعي، جزء من إسرائيل الكبرى، وحين يرسم خارطة مثل هذه لا يزينها بحمامة، بل ببندقية.

منذ يوم مولده اختطف وحش العنصرية ثلاثة أرباع فلسطين تقريباً، ودفنَ خمسمائة قرية وبلدة، وهجّر أهلها، وحين بدا وكأنه شبع كان كل ما في الأمر أنه يتجوّع لالتهام المزيد، وحين التهم هذا المزيد تجوع أكثر ليلتهمه أكثر. لكن الضفة وغزة تسببتا له بكثير من عسر الهضم. ليس غريباً أن يُعقد مؤتمر في داخل هذا الكيان حول اليوم الذي احتلت فيه الضفةُ «إسرائيل» عام 1967، في وقت لم يفهم فيه الوحش ولم يدرك أن عسر الهضم تحوّل إلى مرض مزمن. لكن الوحوش لا تدرك ما يجري في داخلها أبداً، إنها مفتونة دائماً بعدد الضحايا الذين تلتهمهم.

كل من وقّعوا اتفاقيات السلام، والأكثر سذاجة منهم الذين تذللوا للوحش الصهيوني في اتفاقيات أبراهام، لم يدركوا بعد أنهم لم يكونوا هم من يدعمون فلسطين ويدافعون عنها، بل كانت فلسطين هي التي تحميهم وتدافع عن أولادهم وحقّ هؤلاء الأولاد في أن يعيشوا بعيداً عن موت عاشته فلسطين الصغيرة هذه وما زالت تعيشه. لقد تشبث هؤلاء كلهم بأنياب الوحش كي يحموا أنفسهم، هل نقول مثلما يتشبث نتنياهو اليوم نفسه بحماية نفسه بمزيد من الوحشية ومزيد من الحرية في افتراس كل شيء حوله، تاركاً لغلاة العنصريين من أشباهه الذين استطالت أنيابهم ومخالبهم أكثر أن يؤسسوا جيشاً جديداً للوحوش باسم «الحرس القومي» لحراسة الوحوش من الضحايا.

مدهشة الحالة الفلسطينية، رغم تكالب سلطة رام الله على كرسيّها وفسادها، وبهجة سلطة غزة بإمارتها، فلسطين التي صاحت بما يكفي منذ الانقسام مثل ذلك الطفل في الحكاية، دون أن تجد أياً ممن تدّعيا أمومتها تصيح.

لا يحتاج المرء إلى درجة من درجات الاستشراف ليدرك أن الطغيان حين يبدأ لا يمكن أن يتوقف عند حدّ، وأقول لا يحتاج إلى استشراف، لأن كل شيء في الحقيقة خلفه. لكن كل ما حدث أنه حين مرّ به إما أنه لم يره وإما أنه تعمّد ألا يراه؛ ليس بإغلاق عينيه وحسب، بل بفقئهما، ربما ليستطيع ذات يوم أن يبرر تذللـه وتواطؤه على نفسه وشعبه وبلاده وماضيه وحاضره ومستقبله، كي يبقى على كرسيّه، كما يفعل الوحش الذي تسارع انطلاقه في الحكومة الصهيونية الحالية.

يمكن أن تكون شهوة نتنياهو في حماية نفسه هي السبب، لكن الحقيقة أن تلك هي الذريعة التي تشبثت بها الوحشية العنصرية التي وصلت إلى درجة من النضوج لم تبلغها من قبل، وتطمح بالتأكيد إلى درجة أعلى.

من يعتقد أن هذه الموجة ستتراجع الآن، حتى لو تراجع نتنياهو عن قراراته، فهو واهمٌ، فكل ما حدث هو أن وحش العنصرية غادر الغابة التي كان يصول ويجول فيها إلى الغابة الأوسع.

باختصار، لقد تذوّق طعم جمال الوحشية أكثر، وهو يحقق ما لم يحققه من قبل بهذا الوضوح: السلطة.

لا يعود الطغاة إلى أرائك بيوتهم بعد أن يتذّوقوا المخمل الأحمر لكراسي طغيانهم، فكل الدروس خلْفنا، وقد خطَّها الطغاة والعنصريون الذين وأدوا أحلام البشر وسحقوا كرامة وإنسانية هؤلاء البشر بدم الضحايا.

لا تعرف الوحوش طرق العودة، إنّ لها مهمة واحدة؛ أن تقتل أكثر وتبتلع أكثر، وكلما وصلت إلى مكان، سوَّرته بأنيابها ومخالبها مرة وبترسانة أسلحتها مرّة وببولها مرّة؛ كما تفعل الآن في كثير من البلدان التي تستجدي الخضوع بأكثر الطرق مدعاة للسخرية والبكاء معاً.

ويبقى السؤال، هل سينتهي كل شيء بعودة نتنياهو عن مخططاته؟ بالتأكيد لا.

هل سيتراجع الوحش الصهيوني الذي يمثله هؤلاء العنصريون الغلاظ؟ بالتأكيد لا.

ما يحدث أن هذه النقطة التي وصلوها، لا ساحات خلفها يمكن أن يعودوا إليها، فثمة كيان عنصري يولد ثانية بل لنقُلْ ثالثة، وبصورة أكثر وضوحاً وأكثر توحشاً، ولن يعود أبداً للوراء.

لقد تذوق العنصريون السلطة التي يمكن أن يسنّوا بها أنيابهم أكثر، ويشقوا طرقهم لمزيد من العنصرية أكثر، بل أن يثبتوا أنهم أعلى مرتبة من العنصرية التي عملوا الكثير على أن يبتزوا العالم بها، باعتبارهم ضحاياها. ولذا، لا يمكن أن تكون هناك نهاية للطغاة الوحوش -كما علمنا التاريخ- غير زوالهم.

وبعــد:

في يوم الأرض الذي يصادف اليوم، يتأمل المرء هذا كله، ويتأمل أكثر من حال: حالاً عربيًّا رسميًّا أصرّ على عدم الفهم حينًا، والتحالف مع الصهيونية حينًا، وفقدان الذاكرة حيناً، أو كما قالت الأغنية «كأن القدس في الهند الصينية»! وحالاً صهيونياً بالغ التوحّش، لا باحتلاله فلسطين وحسب، (والاحتلال من أعلى درجات العنصرية) بل بإصراره على أن يثبت للعالم، غير عابئ بمن معه وبمن ضده، أنه لن يتراجع عن تتويج نفسه إمبراطوراً للعنصرية في هذا القرن، ويتأمل حالاً فلسطينيًا أدرك مبكرًا جوهر عدوه، ولم تدرك قياداته ولا أنظمة المعاهدات ولا أنظمة الاتفاقيات جوهره، ذلك الشعب الذي غنينا له ولفلسطينه مطلع الثمانينيات:

رُدِّي الجحافل عن مدائنهمْ

لم يحرسوكِ.. فأنتِ حارسهمْ

والنهر خلفكِ خندق الأشجار أو خط الدفاع المستحيلْ

والشعب في كفيك يحرس أرض مكةَ والجزيرةَ

مثلما يحمي الخليلْ

أو نغني له ولفلسطينه ما يليق به في يوم أرضه:

.. فامتشقي فضاء الطير ضوءَ الفجرِ والنُّوارْ

هذا عُرسكِ السنويُّ.. فلنصعدْ إلى آذارْ







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي