«مَنَّا» فِي ذِكْرَى شَتَاتِ وَجِيعَةِ 73

2023-03-08

واسيني الأعرج

سئلت يوماً من طرف منشطة مرموقة، في برنامج ثقافي عربي واسع الانتشار: “لماذا لا تكتبون عن الصحراء؟ كأنها ليست قطعة من الجزائر. لاحظت أن معظم الكتابات الجزائرية تهتم فقط بالشمال والغرب والشرق. أنت تملك قدرة كبيرة على ذلك، لماذا لم تفعل حتى الآن؟”، أجبتها ببساطة: “كتبت عن التجارب النووية في “ران”، رواية “مرايا الضرير” التي كتبتها بالفرنسية مباشرة، لكني كتبت وقتها عن قضية إنسانية أكثر من كونها جزائرية. جريمة ضد الجزائر وأكبر من هذا، ضد الإنسانية، لكن الكتابة العميقة عن الصحراء ستأتي، لكن سيكتب عنها جيل تعلم وتثقف وموهوب، يعيش الصحراء لا كأفق سياحي أو أنثروبولوجي، لكن كحياة في تجاذباتها المعقدة بين الأمل والمأساة. يشم رائحة الشمس الحارقة للجلد ويفك رموز التاسيلي وخطوط الكثبان الرملية التي ترسمها الليالي الخريفية الباردة، ويلمس جرح الخوف من العواصف التي تملأ الحواس. انتظري بعض السنوات وسيأتون. هم قادمون. جيل كفء بدأت ملامحه تظهر في الأفق وستكون كتاباته كبيرة وحاسمة ومبهرة”. يؤكد اليوم الصديق حاج أحمد هذه الفرضية بروايته مَنّا، كما سبق أن أكدها صاحب رواية الطرحان” وكلا العنوانين يحيلان إلى حقيقة محلية متجذرة. “مَنّا” تعني الجفاف والقحط باللغة الترفية مما يترتب عنه الضياع في الصحاري والتشرد، وبينما تعني كلمة “الطرحان” المقايضة، أو إلى ممارسة محلية شبيهة بذلك، القرض مع الرهن. وقد يصل الأمر في بعض الحالات إلى رهن الممتلكات مقابل الغذاء. معاملة انتشرت زمن الجوع والفقر التي شهدتها منطقة توات. وقد أجبر ذلك الكثير من السكان إلى الهجرة فراراً من تبعات هذه المبادلة المجحفة.

لم تكن عزلة المكان وجفافه كافية لتحجيم إرادة هذا الجيل ذي الإرادة الصلبة والقوية. يكفي في ذلك أن رواية “مَنَّا” تخطت عتبات كثيرة من مجمل الروايات العربية، إلى القائمة الطويلة ثم القصيرة، والأمل مفتوح على الجائزة العالمية للرواية العربية. الصديق أحمد الزيواني مجتهد كبير في مجال كتابة رواية بخصوصية صحراوية ليس بالمعنى المكاني وحسب، ولكن أيضاً بالمعنى الكلي لأنماط الحياة الأنثروبولوجية الثقافية والتاريخية. فقد اختار الروائي طريقاً يستجيب لخياراته المكانية في بيئة صحراوية تتخطى المساحة الجزائرية في اتجاه الصحراء المجاورة (مالي)، البعد الصحراوي الإفريقي. في رواية “مملكة الزيوان” (2013) يغوص الكاتب في تفاصيل المجتمع الصحراوي، في أدرار بالجنوب الغربي، من خلال يوميات الحياة الصعبة والشاقة. اختار في رواية “كاماراد” (2015) موضوع الهجرة السرية الإفريقية، ومشقة الرحلة التي لا تنتهي، ومأساة “الحراڨين الرمليين” الحراڨة القادمين من دول الساحل الإفريقي، ثم رحلته إلى دول إفريقيا “رحلاتي لبلاد السافانا: النيجر، مالي والسودان” التي تدرب فيها على اكتشاف عوالم الصحراء الإفريقية الكبرى، وكتابة نص روائي متشبع بهذه الأجواء، وهو ما جاء في روايته الأخيرة “مَنَّا، قيامة شتات الصحراء” (2021)”. لا تكتفي الرواية بالمنظور الطوبوغرافي المغري، بالصحراء بوصفها كومة رمال وشمساً وشجر لارغان النادر المقاوم للعواصف، والمغيب والفجر الساحرين، ولكن الصحراء الحية التي ينشأ فيها بشر يحيون ويموتون خارج مدارات “الحضارة” المتسيدة. لقد خلف جفاف 1973 ارتحالات مهولة للمجموعات البشرية بحثاً عن الحياة الدنيا. شتات بشري ضائع على مرمى البصر بلا وجهة ولا بوصلة، بحثاً عما يمكن أن يمنح بعض حياة. اختارت الرواية صحراء تيلمسي وأدغاغ إفوغاس، شمال مالي، وتيمياوين وتمنراست وبرج باجي مختار وأدرار في الجزائر، مسرحاً لها. هذا الشتات الضائع سيستقر في الأمكنة المجاورة بأقصى الجنوب الجزائري، وهناك يعيش حياة أخرى، غير تلك التي تعود عليها وهو في حالة استقرار، بطبائع مندثرة وأخرى مستجدة فرضها الظرف وطبيعة الأمكنة.

في العتبات، يحيل عنوان النص كما ذكرنا سابقاً، باللغة الترقية، إلى القحط والجفاف، وهو ما سيتحكم في سيرورة الرواية كلها بما في ذلك البنية التي اصطبغت بتلك الحركة الدائرية التي لا تنتهي وتدور حول نفسها وكأنها عاصفة رملية. تنكشف بعدها مشاهد الرحيل الدرامي، في شكل قيامي مفجع وتراجيدي يشاكل قسوة الحياة في تلك المنطقة.

تنطلق الرواية من تصدير يجعل من النص الروائي حالة حُلْمِيَة في الأصل، معتمدة على مؤلف (افتراضي) يحمل عنوان: “التبر المنسي في أخبار صحراء تيلمْسي” الذي يروي تفاصيل وجيعة 1973. منذ البداية يضعنا الروائي وجهاً لوجه أمام قسوة مأساة الرحيل القسري من المالي إلى الجزائر “إن كان لا بد من إماءة مقتصدة، ومستقبل المآل في بوادي تيلمسي ووديانها، جفاف آنية الحليب، وتكلس جلود شكاء اللبن التي أضحت طبيخاً مترفاً. وجد فيه من صاحت عصافير بطنه، مضغا لذيذا، أوقظ أهازيج الحليب وصباحاته. مع الالتفات من بعيد لأغاني مشاوي اللحم ولياليه. ويا حسراه على تلك الأيام. كما ردد السواد الأعظم من الناجين. طوال طريق فرارهم من الموت، نحو طوق النجاة الشمالي، حيث مراكز الإغاثة بالنقاط الحدودية من جنوب الجزائر”. وعلى الرغم من الحالة التي تبدو في مظهرها فجائية، هناك علامات منبئة من خلال “صيام السماء” على صفاف وادي تيلَمْسي، وجبال أدغاغ إفوغاس، وصحراء منكا، مكنت شيوخ القبائل الترڨية والعجوز لولة من قراءة أسرار الرياح والقادم الجهنمي وهي تنظر إلى الإبل النحيفة من شدة الجوع، وصمت صهرها عثمان.

حاول الكاتب أن يتوغل في حياة التوارق، في يوميات الناس وهمومهم. بالخصوص الأحياء الهامشية التي لم تمنح لها القيمة الإنسانية التي تستحق. بالخصوص في منطقة تمنراست حيث عاش غالبية الناجين من مأساة ال “منَّا” القاتلة. فبنوا الأكواخ وخيام العيش، كيفما اتفق فقط ليتمكنوا من تفادي شبح الجوع والعطش والموت. لذلك اعتمدت الرواية مادة تاريخية غنية تتعلق بالحادثة الكبرى التي أصابت مالي في 1973، وزحف الساكنة نحو الصحراء الجزائرية بحثاً عن الماء، ومساحات الإغاثة التي أصبحت مآل المرتحلين. بلغة العارف، اقترب الكاتب من مأساة الرحالة الذين أوصلتهم المجاعات إلى سحق جلود البقر والماعز وتحويلها إلى طعام. داخل هذه المأساة، تمر بسلاسة في الرواية، أنماط الحياة الترڨية وممارسات قبائل الطوارق، وثقافتهم وتقاليدهم. فهناك وصف لبساطة طعامهم وطريقة إعداده، مثل أكلة تاقلة المشهورة في الصحراء الكبرى، وكذا طقس جلسة إعداد وشرب الشاي الذي لا يتنازلون عنه حتى في أصعب الأوقات.

تبدو الرواية على الرغم من تعدد شخصياتها مثل عثمان، بادي بن عثمان الأدناني الذي نجا بأعجوبة من موت محتوم من شراسة مَنَّا وجفاف 1973، ولهذا شكل عنصراً سردياً أساسياً، إذ يمر عبره جزء كبير من الدينامية الروائية La dynamique romanesque. فهو واحد من الحالمين مع أصدقائه سوخا، اخمنو، وغلواتة، وغيرهم بدولة الأزواد التي ظل الرئيس الليبي السابق، معمر القذافي، يرعاها ويبشر بها منذ السبعينيات، وفتح لهم مراكز التدريب العسكري في بني وليد من أجل الانفصال عن النجير ومالي. لكن حلم هؤلاء الشباب تبخر بسرعة، إذ وجدوا أنفسهم مورطين في حروب لا تعني لهم الشيء الكثير.

فقد تم استغلالهم قبل أن يَعُوا مأساة الحلم المستحيل. على الرغم من العدد الضخم من الشخصيات (غسمان والد سوخا، لولة، هكتا، أخمنو، وسوخا…) إلا أن مَنَّا تظل رواية أمكنة، لأن جوهر الثيمة الأساسية هي الارتحال من أمكنة قهرها الجفاف، مثل صحراء تيلَمْسي، وأدغاغ، إفوغاس، ومنّكا الشمالية في امتداداتها نحو جنوب الصحراء الكبرى الجزائرية، تمنراست، جانت، وبرج باجي مختار وأدرار وغيرها من المواقع التي أغاثت أو استقبلت الهاربين الماليين من الجفاف. تتخطى الرواية هذه الحدود المكانية وتتمدد نحو المناطق الليبية والتشادية، وكلها أمكنة تجسد تفاصيل مأساة ال”مَنَّا”. الكاتب عارف جيد للخلفية التاريخية والطوبوغرافية الجغرافية. لا تغيب عنه حتى تفاصيل السلالات القبلية المختلفة، والنظم التي تحكم الطوارق والقبائل العربية التي سكنت المنطقة وانخرطت في عاداتها وتقاليدها بما في ذلك الحب الذي يبدو لغير العارف صعباً بل ومستحيلاً. اللحظات العشقية الجميلة التي جمعت بين بادي وهُكتا ابنة خاله تستحق الانتباه.

انتظرته طوال السنوات العجاف ولم تتخلّ عنه حتى عودته. كانت تكتب له رسائل حب بالتيفيناغ. قسوة الحياة والطبيعة لم تغير مطلقاً من تقاليد الحب التعايش بين مختلف الأعراق والقبائل التي تتقاسم الحياة والعيش في الصحراء الكبرى. قيم مثل التضحية من أجل الكل، التآخي، الإباء، الفرح والغناء (عزف أخَمنو وحبه للقيثارة التي يعتبرها سلاح الغربة)، وغيرها، لم تقتلها مَنَّا الخراب والموت، وظلت الحياة أسمى رهانات القبائل الترڨية المقاومة لل “مَنَّا” وللمظالم. وإن كان “طريق الموت” الذي يتجاوز برج باجي مختار، في انتظارهم لتخطي الارتحال الأول، في اتجاه حياة أخرى هي مجرد احتمال، بين رڨّان وفيلاج الكارتون بأدرار.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي