صابون نابلسي

2023-03-02

رودولفو هاسْلِر

الطريق حارقٌ

يُنذر بأكثر من مفاجأة،

يترك غرزةً مكشوفة -

في سيّارة أجرة يحتضر المساء،

أعبرُ منظرًا أعرفه،

أشجار زيتون مقصوصة،

ملابس معلّقة خارج البيوت،

طقطقة ملاعق في المقاهي،

صرير عجلات، أضواء صفراء،

كلمة ريح تنطلق،

الحجارة بيضاء.

■ ■ ■

يبحث عن ماءِ بئر، يجد راحته عند بئر - إنه عمل تامّ، ماءُ بئر لينتعش الوجه ويغسل حبّات تفّاح. يبدو مستعجلًا لمواصلة المسير. بعد منعطف، ترتسم من بعيد رام الله. يدخل المدينة، يسأل سؤالاً وببطن فارغة يقبل خبز الهزيمة المرّ. كلمات هنا وهناك تلمع في حدّه، كلمات تفلت من خلال شقّ. يُعرِّف أنه أجنبي، شاعرٌ أتى من بعيد، ربما على مسافة متساوية يتابع الموقف - دون معرفة اللغة يحسّ ببعض المعاني، أصداء تضرب مركز اللغة، لا شيء يجهله مسبقًا، رغم أن النتيجة سرٌ يعرفه الجميع. يخلع ملابسه ويستحمّ، المساحة مبالغٌ فيها، في الخارج ينتظره لغزٌ لحلّه، يُعيد الرحلة عندما يغلق عينيه ليصلح أخطاءه. يعلم أن عليه طرح السؤال، يختار للمناسبة العبارة الصحيحة، الكلمة ترتفع بين الحجارة، تتوشّح بالمجد، حجارة بيضاء، حجارة حادّة، يريد لمسها، هل تذكّره بنفسه؟ كيف له أن يشكّ في ذلك؟

■ ■ ■

أبدأ في الحدائقِ الطفولةَ أبدية الجمال، مثل خدعة، مثل رمزٍ شاحب

أقحوانٌ في النطاق الخانق

للبيوت البلاستيكية.

أعود ساهرًا مثل بومة بيضاء

إلى القرون الزيتونية للجلد، أعود إلى

الصدر الدافئ وهو يحرقني مثل دلقٍ

في الأظافر الخطرة. وهكذا أبحث عن العودة

إلى معْقلي المنسكب، إلى الوطن

الذي انسكب مثل كلّ حب، راكبًا

إغراءات محمومة في غرف نوم صغيرة.

■ ■ ■

يظلّ ساهرًا،

إنه بومة،

عويله يضيع في الضباب،

وضعٌ مضجِرٌ،

وهجُ موتٍ

يدقّ الباب،

يقول "مساء الخير"،

يدخل دون أن يكون مدعوًّا

يأخذ مكانًا،

يستقرّ، مصدرًا الحُكم:

ماذا كتبت طوال هذا الوقت؟

لا يستطيع خداع الموت

الذي يجوب التلال،

يلوّح بمنجل كبير

يقترب من العلّيق العامر بالتوت الأسود،

يجرّب حبّة

ويُسرع الخطى.

■ ■ ■

جرحٌ في اللسان - يلتهب،

إنه ورقُ زجاج، يخفض العنق،

يجهّز طرحًا خاطئًا.

من بعيد يميّز البئر، الحبل المعلّق،

إنه ليس سرابًا

يذهب في صمت،

ليست المرّة الأولى.

هناك زوجٌ يقود سيارة الأجرة،

يريد الوصول باكرًا إلى القدس،

إلى باب دمشق.

سالكًا خطّ الجدار، يعدّ أكشاك الحراسة،

إنها سبحة خراب.

الروح يمكن تلمّسها لأوّل مرة

إنها أثقل من الجسد

ـ كما تنبأ ماركوس أوريليوس ـ

الروح حبّة خوخ.

يجب أن يلتقي بالأب

بوجه الأمّ الحازم،

إحسان كوبا يحرّك الوركين

والشاعر يهبط مذعورًا شارعَ "كورونا"

- هذا يقتبسه من حلم -

وهو يجري بين أكشاك الفاكهة

ماذا يريد أن يتذوّق،

عصيرَ رمّان جافّ

ليبتلع خلاصة اليوم؟

■ ■ ■

من المطار يمكن في أقلّ من خمسين دقيقة أن يصل إلى وجهته، لكنّ تلك الكيلومترات القليلة تفصل بين عالمين متواجهين ولغتين وديانتين مهيمنتين وشكلين لتصوّر الحياة والعلاقات.

ربما يكون الصابون المادّة الوحيدة التي تنزلق عبر الفجوة، وقد يكون النواة التي تربط بين القلوب.

العبور إلى الجانب الآخر أكبر تجربة مدمّرة يمكن عيشها، عبور مساحة مقفرة وقذرة، مساحة معفرة وجافّة: الرؤية المباغتة للجدار مزعجة، إنه قطعٌ في المنظر الطبيعي، وجودُه يقود للتفكير في ذلك الذي ما كان يجب أن يقع.

الانتظار بين فوضى السيارات والضوضاء وأشخاصٍ يسيرون في كلّ الاتّجاهات، النظرات تبحث عن بعضها وتدلّ على الخوف. عند الدخول إلى النفق القفص، تشعر بأنك لم تعد تسيطر على نفسك، تترك وراءك التحكّم في قراراتك، لا شيء حقيقيّا.

الصفّ يتقدّم ببطء وأحيانًا يتوقّف لفترة طويلة، دون أمل. صفٌّ يمكن في أي لحظة أن ينفجر فيه الهلع.

يتابعوننا بلا مبالاة من خلف الزجاج السميك المخضرّ من حيث تأتي الصرخات. عند إعطاء الوثائق، من خلف سماكة الزجاج أتلقّى صفعة العبث، فقط أميّز زيًّا عسكريًّا ومقدّمة بندقية معلّقة على الصدر.

■ ■ ■

يعبر الجدار ليصل إلى الفندق في أقرب وقت، وينام إن أمكن. يحدس أنه أمر معقد بعد الطاقة المظلمة لما اختبره. كلّ شيء قذرٌ ومثير للاشمئزاز. الأوساخ جزء من الذل المخطَّط له. لا يختمون جوازات السفر، من الغريب أنهم لا يفعلون، ولكنْ، نعم، يتصفّحونها ويراجعونها بكثير من الاهتمام. يرتفع الغضب إلى الحلق، وكما هو الحال دائمًا في مثل هذه اللحظات، من الأفضل أن تبتلع لسانك. بعد عبور الحاجز، الضجيج يعمّ، يبحث عن سيّارة أجرة أُخرى، وبعد المساومة على السعر ندخل رام الله، رام الله التي لا تزال شوارعها مزدحمة رغم الساعة المتأخّرة، عائلات مع أطفالها تجلس في الشرفات، أضواء في كلّ مكان تعلن عن المحلات والبضائع، وجوه مكشوفة تهيمن على الإعلانات، تعابير مغرية على عكس الوجوه المستترة للنساء في الشارع. الموسيقى العربية، تقليدية أو شبيهة بالريغيه، تقتحم كلّ شيء. يصعب دخول الفوضى. بالتأكيد، في اليوم التالي ستعتاد وتنغمس فيها، لكنّ الصدمة البصرية والصوتية الأولى تصيبك بالشلل. عليك أن تسمّي، دائما أن تسمّي، لتحقيق النظام.

■ ■ ■

عند المساء، في الساحة، أقرأ قصيدة باللغة الإسبانية. الهواء بارد والفك يرقص دون أن يستطيع التحكم في صرير الأسنان. أستمع إلى نبال وهو يقدّم الترجمة العربية لقصيدتي، أكتشف كيف ينطق كلمة غزّة. تحملني قراءته إلى ذكرى بعيدة في تلك المدينة التاريخية. تعود القصيدة إلى فجر بعيد، إلى رحلة قصيرة بالباص صيف عام 1981. أودّ الرجوع بعد الاستماع إلى رواية شاعر من غزة عن المدينة، لكن من المستحيل عبور حاجز "إيرز" دون إذن خاصّ. غزة والقليل المتبقي من تاريخها الطويل، غزة الأليمة، غزة..

■ ■ ■

الحافلة تتّجه إلى غزة

المدينة تدوّي في شكوى

تُعيق العقل

حياة قديمة لتنتهي في اللاشيء،

الشاطئ مع ذلك رائع،

البيوت خليطٌ مبعثَر

مفزِع،

لا أعرف هل أواصل إلى نهاية الرحلة

وأحاول الحديث

دون بلع لساني.

الخطى تتساقط نحو البحر

الظلال تنفجر في الأجسام،

الأعين تتّجه صوب المطرودين،

لكن لا تنسى أن غزة

فرقعة رماد.

هناك كلمات أخرى

كلمات ملعونة

كلمات بائسة

تتلاشى في العيون التي لا تقدر على الرؤية،

لكن، نعم، السماع،

هنا تبقى على شاطئ البحر،

خليط في البطن،

قريبًا جدًّا

أنحني أمام الكنيسة الأرثوذكسية

وأغطّي وجهي في المسجد،

المشهد بأكمله يتبدّد.

أعضّ الأرض

والشعور بالجفاف

يظهر على الوجه

وزن الصدقة،

عوسج ذهبي مغطّى بالغبار،

جدار آخر حيث نضع

قبلة العار التي لا تطاق.

■ ■ ■

صديقي محمد ترك لي رسالة وداع في الفندق قال فيها إنه سيسافر باكرًا إلى نابلس، وطلب منّي زيارته. ودون تردّد قرّرت أن أذهب إلى نابلس، المدينة المستقرّة في عمق الوادي، القدس الذهبية الصغيرة، نابلس المضيافة.

بعد أيام، تنطلق الحافلة التي تقلّني مع خمسة ركّاب آخرين في الصباح الباكر. ضوء الفجر ما يزال متوهّجًا والنشاط حول المحطّة ملحوظ.

أغادر المدينة مصحوبًا بهدير أبواق السيارات، على يميني تظهر مصطفّة منازل مستوطنة بيت إيل قرميدية الأسقف. صادمةٌ مشاهدةُ كلّ هذا البناء، كل هذه الأشجار الضخمة والخضرة التي تحيط بالمستوطنة خلف أسوار الحماية العالية.

من الواضح أن هناك وفرة مياه، أمّا في رام الله فيجب مراقبة استهلاكه، وتجميعه في خزّانات تعتلي كلّ المباني. تتبادر إلى الذهن تجارب قديمة، وفي محاولة للسيطرة على غضبي، أحاول تذكّر كلمات ذلك الرجل الحكيم الذي تحدّث عن ميزة المشاركة مع الغير وتبادل المعرفة.

■ ■ ■

نتوجّه شمالاً عبر الطريق 60 باتّجاه وسط الأراضي، في جميع المعابر تقريبًا توجد نقاط تفتيش عسكرية، يطالبون بفتح باب العربة لجمع بطاقات هوية المسافرين. الوحيد الذي يحمل جواز سفر أجنبي هو أنا، وفي كلّ مرّة أسأل السؤال نفسه بنبرة مفاجئة: مهرجان شعري في رام الله؟

■ ■ ■

بساتين مثمرة وحقول شعير جنبًا إلى جنب مع قِطع أرض يباب عطشى، في نقطة ما يرتفع المنظر الطبيعي ويصبح قاحلًا أصفر. التلال متهالكة وخلف منعطف تظهر قباب نابلس العتيقة. لم تكن الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحًا حين نزلت في ساحة كبيرة، إنها نهاية الرحلة، محاطة بمبانٍ مروّعة ذات طراز غير معروف، على الأرجح بُنيت في سبعينيات القرن الماضي، واجهات مكسوّة بإعلانات ضخمة، متاجر عامرة بالملابس وجميع أنواع الأشياء، وكالات "البنك العربي"، و"بنك القاهرة عمّان"، مقاهٍ بترّاسات. في جانب أكتشف القوس الكبيرة التي تتيح الوصول إلى السوق والبلدة القديمة، أدخل وأترك نفسي تنساب إلى أن أجد مكانًا هادئًا أطلب فيه طبق كبّة وأشرب قهوة.

■ ■ ■

الصمت ينغرس في الجدران والممرات.

هناك جدران متكسّرة

ونوافذ عالية محدّبة.

القمع يتراخى في الساحة الصغيرة

حيث تبرز قبّة المسجد الخضراء

وبرج الساعة العثماني.

الأخضر هو اللون الوحيد الذي يمكن التعرّف إليه

في محيط من الحجر المذهب.

هناك محلات لشراء

الصابون النابلسي الشهير.

■ ■ ■

يُصنع الصابون النابلسي من زيت الزيتون الخالص ويُطبخ على نار هادئة لعدّة أيام حتى لا تفسد مكوّناته الطبيعية، وماء ينابيع جوفية وبوتاسيوم طبيعي.

توضَع الكتلة الناتجة على أرضياتٍ عمرُها قرون مخصّصة حصريًا لهذا النشاط، حيث تميّز خطوط متوازية طويلة، يُحصل عليها من خلال إسناد خيوط الصوف المشبعة بغبار ٍنباتي وردي. متّبعًا هذه الخطوط، يُقطَّع الصابون ويُختَم يدويًا.

■ ■ ■

القبة الخضراء على شكل تفّاحة جعلتُها بوصلتي. أراها على بطاقات بريدية قديمة تنتظر أن تُشترى. فجأة أخرج في طريق واسع تصطف على جانبيه مصانع الصابون. في البداية، الرؤية غير واضحة، عليك أن تنتظر حتى تتأقلم العين مع الظلمة. قدّموا لي في كأس صغيرة زيت الزيتون الذي يستخدمونه في صنع الصابون. يستخرجونه من صُنبورٍ صغير من جرة فخارية، مقشرة ودسمة، كما لو عثر عليها للتو في حفريات. العديد من العمال بسراويلهم المشمرة حتى منتصف الفخذ يديرون مجذافًا خشبيًا قديمًا موصولا بمسمار في وسط الخزان. العجينة ذات اللون العاجي تُخرج فقاعات. هناك ألواح من الصابون موزّعة على الأرض، مقطوعة بخيطٍ صوفيّ، تنتظر أن تجفّ. لكنّ الشيء الأكثر إثارة للإعجاب هو الهندسة المعمارية الهرمية التي تُشكّلها القطع التي تنتظر أن تُختم وتوضع في غلافها الورقي. النشاط بطيء ولكنْ غير منقطع. لم أستطع قط أن أتخيّل كمّ الشغف، وكمّ القشعريرة عند مشاهدة صناعة المادة الكثيفة. قطعة الصابون لطيفة الملمس، تجعلك ترغب في غرس أسنانك في وسطها. أحصل على عدّة قطع، كلّها عليها علامة المفتاحين المتقاطعين، كما لو كانت قطع لحم، كما لو كانت حزمة قلوب نابضة. بعد خروجي، أتمكّن أخيرًا من تصوير التفّاحة الخضراء بعيدة المنال.

■ ■ ■

البحر ليس بعيدًا، لكنّ خفّته لا تصل إلى هنا. هناك شعورٌ هزيل بالارتفاع، إنها مدينة داخلية بُنيت على طريق تجاري قديم، في مكان ما بين عالمَيْن، كما لو أن التحدّث باللغة الآرامية أو الفينيقية كان أفضل لغةٍ للتفاوض في ميناء يافا وعكا وصيدا، وأخْذ البضائع إلى مصر على طول الإمبراطورية العثمانية، حتى مارسيليا.

هكذا يتحدّث محمد عندما يصل للقائي. سنتناول الشاي مع الكنافة - "أفضل كنافة في العالم"، كما يقول، والتي كان يريد بشدّة تذوّقها مرة أخرى. أحضر لي صديقي عدّة قطع صابون في غلافها الورقي، أخبرني أن والده عمل في أحد المصانع في الجزء العلوي، مصنع "الجمل"، ولو أن المفضّل لدي هو الصابون ذو المفتاحين.

■ ■ ■

أحمل في حقيبتي خمس قطع صابون وأنا أعبر نقطة التفتيش الأكثر إذلالًا. الضوء يشتّت الغيوم، أذهب باتجاه الساحل، أتنقّل بين بساتين الزيتون وأشجار الخرّوب القوية، يختفي المنظر ويكرّر نفسه.

ترجمة من الإسبانية: إبراهيم اليعيشي

بطاقة

Rodolfo Häsler شاعر كوبي وُلد في سانتياغو دي كوبا عام 1958، من أب سويسري وأم كوبية. انتقل مع عائلته للعيش في برشلونة وهو في العاشرة، قبل أن يتّجه لدراسة الأدب في "جامعة لوزان" بسويسرا. له دواوين عديدة، منها: "قصائد الرمل" (1982)، و"جمال التفكير الأصيل" (1997)، و"لسان الذئب" (2019). ترجم إلى الإسبانية قصائد لنوفاليس وقصصاً لكافكا. والقصائد المترجمة هنا مقتطفة من ديوانه المقبل "صابون نابلسي".








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي