رياح كارلوس ساورا الفاتنة

2023-02-16

إبراهيم نصر الله

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي فتننا المخرج كارلوس ساورا، الذي رحل مطلع هذا الأسبوع، بفيلم استثنائي تعلق به جيل من المثقفين، وأعني هنا فيلم «كارمن»، ولعل ذلك الفيلم الذي نال شهرة عالمية برقصاته وطريقة إخراجه المستندة إلى فلسفة البروفة، هو ما فتح الأعين على تجربة هذا المخرج الكبير، فبدأنا البحث عن بقية أفلامه في زمن لم يكن فيه الحصول على فيلم أجنبي أمراً ممكناً، إذ لم تكن أفلام الفيديو متاحة بصورة جيدة، وإن استطاع المرء الوصول إليها فإن رداءة الصورة (بسبب النَّسخ المتكرر)، تجعل مشاهدتها أمراً صعباً، حتى إننا كنا نتندّر أحياناً ونحن نصف تدنّي مستوى الرؤية لهذا الأفلام: لو أن بطلة الفيلم طرقت الباب، وفتح لها أحدنا، لما عرَفها!

بعد ذلك شاهدنا له «عرس الدم»، الذي ولِد قبله، و»الحب المسحور» حيث استند عمله في هذين الفيلمين إلى فلسفة البروفة ومفاجآتها أيضاً، لتكتمل مشاهدتنا لهذه الثلاثية، ثلاثية الفلامنغو.

القراءة عن أعمال ساورا كانت أسهل بكثير من الوصول إلى أفلامه، هذا الذي ينتمي للطليعة السينمائية الكبرى من أمثال: برغمان، فلّيني، فيسكونتي، أكيرا كوروساوا …، والذين أيضاً كان الوصول إلى أي فيلم من أفلامهم يحتاج إلى بحث مضنٍ.

ذات يوم سمعت بفيلمه «الصيد» الذي أخرجه عام 1966، استهوتني الفكرة، فبدأت بالبحث عنه، إلى أن وجدتُ نسخة منه في المركز الثقافي الإسباني «سرفانتس»، بعمان.

لم يكن الفيلم مترجماً إلى أي لغة، لذا كان عليّ أن أقرأ عنه كي أستطيع متابعته بلغته الإسبانية.

لم يكن الفيلم صعباً، فقوة الصورة فيه وتحوّلات الشخصيات في بريَّة صيد الأرانب؛ التي كانت واحدة من ساحات الحرب الإسبانية، وقلّة عدد الشخصيات: ثلاثة رجال وطفل وحيوان بجرس (يستخدمونه لإفزاع الأرانب بعد زجّه في جحورها)، كل ذلك كان يُسهِّل على المرء فهم الفيلم حتى لو كان فيلماً صامتاً.

مدهش كان عمل ساورا في ذلك الفيلم الذي يهجو بوضوح الروح الفاشية الإسبانية في تلك الفترة، تحت ظلّ حكم فرانكو، ويتألق ساورا (المشارك في كتابة السيناريو)، في تتبع شخصياته في المسافة ما بين لهو بدايات الرحلة، إلى تراجيديات نهاياتها المرعبة.

لم يُتح لي أن أرى فيلم «الصيد» هذا، مترجماً إلا بعد سنوات طويلة، لكنني بقيت مبهوراً به، وبهذه القدرة الفذة لمخرج عظيم، كان في الرابعة والثلاثين من عمره حين قدّم هذا الفيلم الشجاع، الذي أهّله للفوز بسبع جوائز من بينها جائزة أفضل مخرج في مهرجان برلين السينمائي.

تراوحت جودة أفلام ساورا في نهايات الثمانينيات وما بعدها، وإن بقي فيلم «تانغو» واحداً من أجملها، ولعله الفيلم الإسباني الوحيد الذي عُرض في صالات السينما بعمّان قبل نهاية الألفية الثانية، ولكنني أتذكّر جيداً أن المشهد كان حزيناً في الصالة الكبيرة لسينما فيلادلفيا، بسبب غياب الجمهور المولع بالأفلام الأمريكية وحدها، في ضوء إحجام الصالات عن عرض أفلام عالمية ذات رؤى مختلفة ومناخات فنية وإنسانية مختلفة أيضاً، هذه الأفلام التي لم تُكرَّس لها قوة إعلامية جبارة كتلك التي سُخِّرت لتعميم واحتضان السينما الأمريكية، دون أن ننسى هنا دور نادي السينما في عمّان، الذي كان يعمل على تقديم بعض هذه الأفلام لجمهور محدود، وبنسخ متاحة غالباً ما تكون منخفضة الجودة.

في ذلك اليوم وجدت نفسي الشخص الوحيد في تلك السينما الضخمة، فدفعني خجلي للخروج للحديث مع مسؤول الصالة، لأخبره أنني مستعد لتأجيل مشاهدتي للفيلم إلى عرض آخر.

الرجل المهذّب الذي يعرفني، طلب مني أن أعود إلى الصالة بلطف لمشاهدة الفيلم والاستمتاع به، بعيداً عن أي إحساس بالذّنب.

عدتُ..

كان واحداً من أجمل أفلام ساورا، الذي بتّ على دراية جيدة بأفلامه، وفُتِنت بفيلميه «أمي تبلغ المائة» و»نداء الغراب» وإلى ذلك فيلم «الصيد» الذي ظل يحتلّ مكانة خاصة.

خرجت من «تانغو» حانقاً، فمن الأمور المؤلمة حقاً أن تعيش لحظات جميلة دون أن يشاركك أحد متعتها.

.. وربما، لكي أشكر مدير الصالة، وأهجو الغائبين، وأخفِّف عن نفسي ضغط أنني كنت ضيفاً ثقيلاً على عرض رائع، كتبت مقالاً عن الفيلم، وحسناً أنني فعلت، إذ بالكتابة، وفي الكتابة، بدأت أكتشف أشياء جميلة فيه، بانتقالي من مقعد المشاهد إلى مقعد المتأمل.

«الخيال هو سياج الأمان الذي يمنعنا من السقوط في حفرة الرّعب»، يقول ماريو سواريز، بطل «تانغو».

هذا الفيلم الذي بدا لي يومها تتويجاً فنياً غير عادي لأعمال المخرج، وتصعيداً متقناً لكل أساليبه التي استخدمها من قبل وبخاصة في ثلاثيته تلك.

في هذا الفيلم يمكن أن نتتبع المفردات الكبرى في كثير من أعمال ساورا، بدءاً من الصراع (الرائع) بين بطلة العرض ومنافستها، مروراً بأسى يغمر الخشبة أثناء البروفات قادماً من حكايات حب مجروحة خارجها، بين الراقص الأول، أو المخرج، والراقصة الأولى، وجماليات البروفة التي أُشيرَ إليها، وهي تغدو العمل نفسه، ولعل فيلم «البجعة السوداء، 2010» للمخرج دارين أرنوفسكي، الذي ظهر بعد أكثر من عشر سنوات من «تانغو»، وما يزيد على ربع قرن من ثلاثية الفلامنغو، من أبرز الأفلام التي تتبعتْ هذا النهج الفني، وصعدت به في فيلم كبير أهّل نتالي بورتمان للفوز بالأوسكار.

لكن ما يوصِل فيلم تانغو إلى ذرى جديدة هو ذلك التضافر القويّ، العذب المُعذِّب بين شخصية بطله ونهاياته الحزينة المرتبطة بهبوط الفن، والماضي الذي أثقلت الفاشية كاهله، ويتواصل انبعاث رائحتها بعد أفولها.

وبعــــد:

لا يُعوِّضُ رحيل الكبار أحد، فما يمكن أن يقدّمه كل مبدع كبير يظل فريداً، بتقاطعه مع ذاكرة مختلفة ومعاناة مختلفة وأزمنة مختلفة وثقافة مختلفة ورهافة مختلفة وأساليب مختلفة، والأهمّ، رؤى مختلفة.

وداعاً كارلوس ساورا.. لقد منحتَنا الكثير.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي