أسطورة حيزية وتفكيك بعض أسرارها

2023-02-01

واسيني الأعرج

كثير من الشخصيات العالمية التي التبست بالأسطورة بعد أن كانت مجرد حقائق افتراضية صغيرة لا قيمة كبيرة لها، تضعنا أمام سؤال حاد: ما هي أسرار القصة التي دفعت بها إلى التحول إلى أسطورة تتخطى الأزمنة والأمكنة؟ ارتقت «شهرزاد» إلى المرأة الأسطورة التي كثيراً ما غادرت الكتاب لتصبح نموذجاً مقاوماً للقهر والظلم الذكوري، وأصبحت «الجازية» شخصية رافضة للظلم الاجتماعي ورمزية مقاومة للحروب لأنه لا شيء من ورائها إلا الدم، تخطت الحاضر لتستمر في وجداننا المتهتك والمكسور لتمنحه بعضاً من التوازن، وكذلك زنوبيا، ملكة تدمر، التي أدارت بقوة استثنائية جزءاً من العالم وألغت فكرة عجز الأنثى عن الإدارة.

كثيراً ما تم اختزال هذه الشخصيات التي انتقلت من الحقيقة التاريخية إلى الرمز الأسطوري، لتخرج من دائرة السيطرة البشرية وتخط طريقها نحو الخلود والمطلق. من يقف وراء ذلك؟ بكل تأكيد ليس إرادة سياسية ضاغطة، بل كتب تخطت تأثيرات الكتابة والتصقت بالمطلق. كارمن، في الثقافة العالمية، لا قيمة لها خارج قصة بروسبير ميريمي التي تحمل نفس العنوان: «كارمن». شهرزاد لا وجود لها خارج «ألف ليلة وليلة». والجازية لا وجود لها أيضاً إلا داخل «السيرة الهلالية». و»حيزية» موضوعنا هنا، لا وجود لها إلا داخل قصيدة «بنڨيطون». هي أيضاً من ضمن هؤلاء النساء الأسطوريات اللواتي صنعن أقدار الرجال والبلدان، ونسجن أقدارهن التراجيدية في أغلبها؛ كارمن ماتت بطعنة، حيزية ماتت بشكل غامض، الجازية ماتت في عزلة بعد أن اختارت تربية أطفال موتى الحروب القبلية الطاحنة وتقاتل عشاقها، وزنوبيا قتلت بالقباقيب بعد مج السلطة.

فبعض الحالات الأدبية التي لها تماس بالواقع والعواطف الإنسانية العميقة في ظل نظام قبلي قاهر، تتحول مع الوقت إلى أسطورة. أسطورة تعيش مع الأجيال وتتلون بقصصهم وآلامهم وأشواقهم، ولا تموت لأنها تعيش في أعماق الناس. لا توجد قصيدة ملحمية أثارت كل هذا الجدل بفنّها الكبير وبمحتواها الإنساني المتجدد، الذي جاءنا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مثل قصيدة «حيزية» التي كتبها الشاعر محمد بنقيطون (ابن قيطون) بأحاسيس ملتهبة، ثم انطفأ، ليظهر صوفياً في مكان آخر. وكأن ما حدث في الوسط كان شديد القسوة قاده نحو العزلة والتصوف. حتى إن القصيدة، كما في كل النصوص العظيمة، أكلت مع الزمن شاعرها محمد بن قيطون. تكفي كلمة حيزية لتتجلى القصة ولا أحد يتعمق في سؤال كاتبها، مثل ألف ليلة وليلة، ودون كيخوتي، وزوربا، كارمن وغيرها من النصوص العظيمة التي تنوب فيها العناوين عن كتابها، وهذه واحدة من سمات خلود النصوص الاستثنائية التي أنتجتها البشرية. القصيدة كانت مهملة، محفوظة في ذاكرة أهل الجنوب الصحراوي، في سيدي خالد، ليس بعيداً عن مدينة بسكرة (الجزائر) ومحيطها، حتى جاء الباحث الفرنسي كونستانتان لويس سونييك Sonieck في سنة 1899، ونشرها مترجمة إلى الفرنسية مع النص الأصلي مع خمس قصائد مغاربية تحت عنوان «ستّ أغان عربية بالعامية المغاربية (Six chansons arabes en dialecte maghrébin)، في مجلة الجريدة الآسيوية ((Journal Asiatique وترجمها إلى اللغة الفرنسية، وأخرجها من الغياب نهائياً، ثم أعاد نشرها في مؤلف له مع قصائد أخرى في سنة 1902 بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات. أي، خمس سنوات قبل وفاة كاتبها، وافترض أن التعديلات حدثت بعد لقائه بكاتبها أو بمن يعرفه جيداً، لكن لا توجد أية علامة تدل على هذا اللقاء بسبب الوضع الذي يكون قد عاشه الشاعر بنڨيطون بعد شيوع قصيدته العشقية الجريئة جداً. بعدها بدأ المهتمون يولونها عناية خاصة بوصفها من المراثي العظيمة، قبل أن يستلمها مترجمون آخرون، جزائريون هذه المرة، معتمدين ترجمة سونييك كأرضية، فأدخلوا عليها بعض التعديلات المحلية التي غابت عن سونييك، كما فعل الدكتور حاجيات، وبعده الدكتور سهيل ديب.

بحثاً عن الحقيقة الغائبة، سافرت نحو «حيزية» في عز الحرّ وفي عز الأمطار والثلوج على مدار الثلاث سنوات الأخيرة، معتمداً الحكاية الشعبية كمرجع مساعد لمعرفة الحقيقة. البشر يذهبون لكن مروياتهم تبقى ولا بد لبذرة الحقيقة أن تخلد، بالخصوص عندما نزيل عنها الزوائد. عندما سألت العجوز التي قادوني نحوها وكانت تبلغ من العمر 96 سنة: كم كان عمر حيزية عندما خطبها آل بنڤانة (ابن قانة) لتزويجها لابنهم عبد الغني؟ صمتت قليلاً. تأملت وجهها الذي أكتله السنوات ولم تمتص نوره. كان المطر يضرب بقوة النافذة المطلة على الجبل الأخضر الذي تغطي قممه الثلوج الشتوية في مثل هذا الوقت بالذات. قالت نانا شامة: كان عمر حيزية حوالي العشرين سنة. لم تكن سعيدة بالزواج الذي فرض عليها فرضاً، لدرجة أنها حتى فكرت في الانتحار، بالخصوص عندما أخبرتها خالتها أن سعيد، ابن عمها، رضع معها من ثدي أمها، بالخصوص بعد وفاة أمه بعد شهور قليلة من وضعه. لقد تربى يتيماً في بيت عائلة بوعكاز وتبنته قبيلة الذواودة كواحد منها. رفض أبوها في البداية تزويجها من نجل بنڤانة بسبب خلافات قبلية قديمة بين القبيلتين المتفرعتين من الذواودة والعلاقة الملتبسة بباي قسنطينة، الذي تربطه علاقة خؤولة مع آل بنڤانة. لكن بالوساطات والإصرار، قبل الوالد بتزويجها لعبد الغني بنڤانة (ابن قانة). لكن عندما قتل شيخ العرب من قبيلة الذواودة، ممثل الأمير عبد القادر، وخيانة بنڤانة وتعامله مع الاستعمار وعمله الإجرامي لتدمير قبيلة الذواودة التي اتضح أن ارتباطه بها مجرد كذبة للسيطرة على القبيلة كلياً. آل بنڤانة سموا على أمهم ڤانا (قانة) حتى ولو كانوا من الأشراف من سلالة سيدي أحمد بن إدريس. وعلى الرغم من ادعاء آل بنڤانة النسب الذواودي فقد رفضت العديد من القبائل العربية سلطتهم من خلال نظام مشيخة العرب. كما فعل أولاد دراج، والسوامعية، وأولاد سحنون الذين اختاروا مشيخة صف الأمير الذواودي فرحات بن سعيد على العكس من السحارية والبوازيدية الذين ساندوا آل بنڤانة وأحمد باي.

بدأ الصراع الكبير وكانت ضحيته الأولى «حيزية»، لم يتم فقط فك الخطوبة ولكن التفكير في الانتقام من عائلة بوعكاز، لأن الخلاف كان قد وصل لدرجة الاصطدام والعداوة. أصبحت حيزية وسيلة الانتقام، لكنها كانت سعيدة بفك خطوبة فرضت عليها. في المقابل، أصبح طريق الانتقام سهلاً ضد حيزية التي أثارت خطبتها غيرة نساء آل بنڤانة: ماذا وجد فيها عبد الغني بنڤانة من ميزات غير متوفرة في نسائهم؟ الفرصة كانت مناسبة. أُرسلت لها امرأتان وضعتا لها سماً مستخلصاً من سم العقارب السوداء، بلا رائحة ولا مذاق. عندما عادت حيزية من رحلة الشمال الصيفية، ذهبتا نحوها لتباركا لها العودة الميمونة من رحلة الهضاب التي دامت نصف سنة تقريباً. وهناك سممتاها في «المخراف» وخرجتا. وعندما ارتحلت القبيلة من جديد باتجاه سيدي خالد، بدأ السم يفعل فعله ليتوقف قلبها في «وادي التل»، فقد أصيبت حيزية فجأة بشلل كبير في كامل أعضائها. ثم فقدت القدرة على الكلام. وعندما بدأت رغوة صفراء تخرج من فمها، عرفوا أنه سم. ظنوها لدغة حية. شربوها الزيت لتقييئها لتموت بين ذراعي سعيد وهو يحاول إنقاذها. حيزية إذن لم تنتحر ولم تقتل بالخطأ، ولكن موتها جاء نتيجة صراع سياسي بين قبيلتين كبيرتين تنازعتا منصب «شيخ العرب» الذي كان قد استأثر به الذواودة على الرغم من تواطؤ أحمد باي مع أبناء خالته من آل بنڤانة. أهم شيء في هذه المروية الشعبية التاريخية الحكائية التي استمرت صبحية كاملة هي أنها تؤكد على مقتل حيزية مسمومة؛ أي أن غموض موتها في قصيدة بنڤيطون (ابن قيطون) له ما يبرره، إما لكون هذا الأخير لم يكن يعرف الحقيقة، أو لتفادي حرب بين الذواودة وآل بنڤانة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي