عصر أنوار القرصان

2023-01-30

صبحي حديدي

عُرف الأنثروبولوجي الأمريكي دافيد رولف غريبر (1961-2020) في ميادين عديدة متشعبة لعلّ أبرزها انكبابه العميق على الجوانب الاقتصادية والثقافية والسياسية في مباحث الأناسة؛ على غرار عمله الرائد «الدَيْن: الـ5000 سنة الأولى»، 2011، الذي تناول ظواهر القرض والإقراض وعلاقتها بانعدام المساواة في الحياة البشرية؛ أو كتابه الثاني «مِهَن الرَوْث: نظرية»، 2018، الذي لا يقلّ إشكالية في رصده المعمّق لانحطاط أعراف التوظيف والإدارة البيروقراطية في النظام الرأسمالي المعاصر. كان، إلى هذا، أحد أبرز النشطاء الفوضويين، بمعنى التيار السياسي والفكري الذي تعود أصوله إلى أمثال الفرنسي برودون والروسي باكونين، وقد تصدّر حركة «احتلوا وول ستريت» التي شهدتها نيويورك في خريف 2011 واتخذت لاحقاً نطاقاً كونياً خلال احتجاجات مماثلة عمّت نحو 1500 مدينة على امتداد العالم.

وقد كانت كتابات غريبر المميزة، خاصة أبحاثه الميدانية في مدغشقر أواسط تسعينيات القرن المنصرم، قد ضمنت له التدريس في جامعة ييل العريقة، سنوات 1998 وحتى 2005؛ لكنّ شخصيته المتمردة، ومواقفه الانشقاقية ذات الأبعاد السياسية بصفة خاصة، تكفلت بإقصائه من هذه الجامعة، وهجرته استطراداً إلى بريطانيا حيث درّس أيضاً في مؤسسة عريقة هي «مدرسة لندن للاقتصاد». وخلال إقامته في بريطانيا لم يتوقف غريبر عن إثارة العواصف، واشتُهر على سبيل المثال بقيادة حملة ضد صحيفة الـ»غارديان» لانخراطها في التحريض ضدّ زعيم حزب العمال آنذاك، جيريمي كوربن، وتلفيق تهمة العداء للسامية لتقويض موقعه داخل الحزب وفي الدولة والمجتمع البريطاني عموماً. وبعد رحيل مفاجئ ومأساوي، خلال إجازة في فينيسيا، صدر سنة 2021 كتابه الهامّ «فجر كلّ شيء: تاريخ جديد للإنسانية»، في تأليف مشترك مع دافيد ونغرو؛ ومؤخراً صدرت الطبعة الإنكليزية من كتابه الثاني «عصر تنوير القرصان، أو ليبرتاليا الفعلية»، الذي صدر قبلئذ في ترجمة فرنسية وأخرى إيطالية.

لا يجوز الإبقاء على شخصية القرصان في إسار الخرافة أو المغامرة أو التنميط المسبق، كما كرّسته مخيّلات متعددة وطرائق تسلية متنوعة، وكما انطوى دائماً على مخالفة للواقع الفعلي، السياسي والعسكري والملاحي والاقتصادي والاجتماعي

وفي كتابه الأخير هذا، الأقرب إلى مقالة طويلة في الواقع، يسعى غريبر إلى إخراج تاريخ القراصنة من ميادين الرومانس والاستيهام والمغامرات والتنميطات المختلفة التي كرّستها السينما عموماً، ومنهجية هوليود على نحو خاصّ؛ اعتماداً على ما استجمعه من خلاصات ميدانية خلال إقامته في جزيرة مدغشقر لإعداد أطروحة الدكتوراه، واتكاءً على معطيات أنثروبولوجية مدهشة في دلالاتها الإنسانية أوّلاً، ثمّ السياسية والأخلاقية والحكومية تالياً. هنالك، بادئ ذي بدء، مجموعة إثنية قائمة ومتكاملة، هي الـ»زانا – مالاتا»، وهم أحفاد القراصنة الذين استوطنوا الجزيرة خلال القرن الثامن عشر، وأقاموا نظاماً في الحكم لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطياً بمصطلحات أزمنتنا، ومتقدماً أيضاً، هو دولة «ليبرتاليا» كما يشير غريبر. وإذا كان الروائي البريطاني دانييل ديفو، صاحب «روبنسون كروزو»، قد ألمح إلى ذلك النظام في كتاب صدر سنة 1724 بعنوان «تاريخ عامّ للقراصنة»، فإنّ الأبحاث حول دولة مدغشقر تلك ليست قليلة ونادرة فقط، بل يساجل غريبر بأنها منعدمة أو تكاد.

وهو لا يخفي، ولا يتغافل عن، احتمال استنكار البعض لأسئلة يطرحها في كتابه، ويبرهن عليها جاهداً أيضاً، من الطراز التالي: «لماذا لا نرى في رجل مثل كاندياروناك [الخطيب والزعيم، الملقّب بـ»سقراط الأقوام الأصلية»] منظّراً هاماً للحرية الإنسانية؟ لقد كان هكذا بالفعل. لماذا لا نرى في رجل مثل توم تسيميلاهو [حفيد القراصنة الإنكليز من أمّ مدغشقرية، الذي أسّس اتحاد قبائل في شمال شرق الجزيرة] واحداً من روّاد الديمقراطية؟»؛ هذا إلى جانب نساء لعبن أدواراً بالغة الأهمية في تكريس حقوق المرأة، وتوطيد مكانتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

أسئلة كهذه يثيرها غريبر من داخل مقاربة منهجية ترى أنّ التاريخ المكتوب اليوم في الغرب «ليس حافلاً بالزيف والتمركز الأوروبي على الذات فقط، بل هو أيضاً مكرّر ومملّ على نحو لا ضرورة له. هنالك متعة مفرطة متكتّم عليها لجهة الوعظ الأخلاقي، مقترنة بأناشيد أشبه بالرياضيات في اختزال كامل النشاط الإنساني إلى حسابات تعظيم الذات. لكنّ هذه كلها رغائب مبهرجة، فالحكاية الحقيقية لما حدث في التاريخ الإنساني هي أكثر تنوّعاً بألف مرّة».  وفي الأقسام الأولى من كتابه يعمد غريبر إلى اقتباس من الفرنسي مونتسكيو، أحد كبار فلاسفة عصر الأنوار وصاحب «روح الشرائع»، يقول إنّ الإغريق الأوائل «كانوا جميعاً من القراصنة»؛ موضحاً أنّ فصول «عصر تنوير القرصان» تتناول ممالك القراصنة، الفعلي منها والمتخيّل على حدّ سواء. إذْ آن الأوان، في يقينه، لإقامة الفارق بينهما، إذ أنّ 100 سنة من نهاية القرن السابع عشر وحتى ختام القرن الذي تلاه كان ساحل مدغشقر الشرقي ميداناً لقراصنة ملوك وفظائع قرصنة واستيهامات طوباوية عنهم؛ والمطلوب اليوم وضع تلك التواريخ والوقائع والممالك والأنظمة في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية.

لا يجوز، في استطراد غريبر، الإبقاء على شخصية القرصان في إسار الخرافة أو المغامرة أو التنميط المسبق، كما كرّسته مخيّلات متعددة وطرائق تسلية متنوعة، وكما انطوى دائماً على مخالفة للواقع الفعلي، السياسي والعسكري والملاحي والاقتصادي والاجتماعي، من جهة أولى؛ وكما، وهو الأخطر والأبعد أذى، تمّ تقزيمه لجهة استبعاد العناصر الأبهى والأشدّ إثارة والأعلى دلالة، خاصة لجهة تدشين عصور تنوير متعاقبة تولاها قرصان ما، اقتدى بسنن سقراط أو… مونتسكيو!







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي