تحولات النص

2023-01-03

جبار ياسين

أعلن سقراط وفقا لما رواه تلميذه أفلاطون في «المأدبة» أن الكتابة تجعل الكلام مثل الأنصاب، أي لا تتحرك ولا تتحدث ولا تفكر. كان سقراط ومن قبله فلاسفة الأغريق «ما قبل السقراطيين» من أنصار الشفاهة، أي الفلسفة ككلام منطوق. عزز أفلاطون منطقه المخالف لأستاذه بما كتبه من كلام سقراط وجعله خالدا، نستشهد به اليوم.

عززت الكتابة، بكل مستوياتها الفلسفية والأدبية والعلمية من التطور الحضاري ونقل الحضارات بتنقلاتها وتأويلاتها وانتحالاتها وتجانسها واختلافاتها وتناصاتها وجدلياتها. الكتابة ديناميكية متنقلة بين النصوص بكل لغاتها، وكذلك في النص ذاته بلغته الأولى. الكتابة والمسح هما جوهر الفكر وتطوره، عبر التنقل في النص الواحد أيضا، لولا الكتابة وتنقلاتها لما تطور الفكر والأدب والتشكيل والنحت أيضا «فن صناعة الأنصاب» الذي كان يخشاه سقراط.

علم النفس تطور من خلال الكتابة في رسمها ومحوها، التنقل من فكرة إلى أخرى، ما خفي منها وما أريد قوله وأضمر وسكت عنه لأجل، بل إن خط الكتابة نفسه تعبير عن النفس بكل تركيبها المعقد، حريتها وأغلالها، لدراسة بروست أو كافكا أو محمد خضير، مثلا، فإن نسخ «المسودات» تعيننا في فهم تطور نصوصهم النهائية وصيروراتها في الزمن. يمكن القول ألا نص ثابت نهائي، لا في عقل الكاتب ولا في عين وعقل القارئ. لا ندري إن كان سيبقى لنا شيء من سقراط، عدا تمثاله، لولا عزيزنا أفلاطون؟ لعل سقراط كان سلفيا في عين تلميذه فلم يصغ لنصيحته في ضرورة كتابة أفكاره بدل «الكلام» بها في أسواق أثينا. النص يتنقل مثل مسافر. يسافر بين الأصدقاء القريبين والأقوام البعيدة، يرتدي حللا تناسب المكان والزمان، لغة وإشارات. يصير حكاية مرة وأسطورة أخرى. قصيدة على لسان شاعر وقصة في قلم روائي وحيزا في لوحة فنان، أو كتابة بارزة في نصب نحات، أو أغنية على لسان مغن أو تنهيدة على ثغر عاشقة أو عاشق.

النص الأدبي لا حدود له، واقعية أو افتراضية. هو في حركة دائمة في فكر كاتبه وقارئه. هو حر. باختصار في حرية تكمل بعضها في كل فعل. أليست الحرية هي أفعالنا؟ محق الكاهن القبالي الذي صرح بأن للكتاب المقدس تأويلات بعدد قرائه. هكذا، فإن أي نص أدبي هو في حركة دائبة، مثل الخلية التي هي أساس الحياة.

في تجربتي ولسنوات عديدة مع تلاميذ المدارس، حيث كنت أشرف على ورشات أدبية، اكتشفت قدرتهم على التعامل مع النص بحرية كاملة. قبل خمسة وعشرين عاما كنت أقيم ورشات أدبية في الشعر والقصة في مدارس من مختلف أنحاء فرنسا وإيطاليا. خصصت الشعر لتلاميذ المدارس الابتدائية لتنمية المخيلة الأدبية البريئة للأطفال. في المدارس الثانوية كانت القصة هي موضوع تنظيم المخيلة ضمن منطق التسلسل المزعوم، أو التبعثر المقصود. نجح تلاميذ مدارس ثانوية في كتابة ونشر أكثر من خمس روايات قصيرة. نجح تلاميذ الابتدائية في نشر مجموعتين شعريتين جماعيتين وبعض النشرات الجدارية. التجربة مع الصغار كانت الأهم بالنسبة لي في إعطائي دروسا في حرية الخيال وتحولات النص. كنت اختار قصيدة لشاعر فرنسي أو إيطالي وأطلب من التلاميذ الكتابة على منوالها. في أيام من العمل كنت أكتشف أن القصيدة بقيت نفسها، بنسغها الأول. أحيانا بأيقاعها لكن المفردات تتغير، أحيانا الأشياء التي تقصدها القصيدة تتبادل الأدوار: القمر يصير شمسا، الباب يصير نافذة، الأرض تصير كوكبا آخر، الذئب يصير حملا، لكن مفردات مثل الأم أو البيت لا تتغير إلا نادرا. كانت القصيدة تصير قصائد بعدد التلاميذ. هي نفسها وهي قصيدة أخرى، موازية. كأن التلاميذ الصغار، أحيانا، يكتبون ما فكر الشاعر في كتابته في لحظات تردده خلال الكتابة، قبل الإذعان لقدراته والموافقة على قصيدته في صيغتها الأخيرة قبل النشر؟

خلال عملي ذاك، تيقنت من أن النص لا نهائي في ذاته وخارج ذاته. اللانهائية هي مرافق لكل نص أدبي. بمعنى ما، أن النص لم ينته بين أيدي الشاعر وعقله، وأن تحولاته موجودة في كل قراءة له، في ذهن الكاتب والقارئ كذلك. على هذا النهج حاولت تبيان ذلك في ثلاثة نماذج، متشابهة ومختلفة، لنص واحد. من الممكن المضي على هذا المنوال إلى اللانهاية لكتابة الآلاف، بل الملايين من النصوص، انطلاقا من نص واحد. تاريخ الأدب لم يكن غير هذا؟

لتعرفني يا بني آدم؟

أنا الله

انا العشق بكل حروفه

أنا في السماء شعاع النور

في الليالي صفرة العاشق

لون الوجد

لون القمر

أطل عليكم لأزرع حبات قمحي

بين ضلوعكم

لتجري المياه

وتجري الحياة

أهيئ حبا كي تطول الحياة

ويصبح لذرة الرمل معنى

وللشجرة ألف غصن

تظلل ألف عاشق وعشيقة

في مهرجان القبل

كي تطبع شفاه الحبيب

حمرتها على شفاه الحبيبة

أنا الله

يهبط من فردوسه

كلما خفق قلب بعشق

وكلما احمرت شفاه الحبيبة

من فرط قبلة

تعيد الحياة لأولها

وتجعل مني إلها

أنا العشق

أنا اللحظة الخاطفة

أنا الساكن بين الشفاه

حين تضيق السماء بي

وأنا الوحيد

حين لا يكون العشق جسرا

بيني وبين العاشقين

أنا الذي يعيد الحياة

للنار والماء والشجر المعمر

للسماء وللبحر

للأرض وما تحتها

للبشر الأوائل وما بعدهم

في قبلة واحدة

 

٭ ٭ ٭

طريقة أخرى في كتابة النص نفسه

لتعرفني يا بني آدم؟

أنا فينوس

آلهة الجمال

أنا العشق بكل حروفه

أنا في سماء طروادة شعاع النور

أيلين

جميلة الأغريق تشبهني

بنهدين من مرمر إسبارطة

وشفاه من أعشاب بحر إيجه

اسألوا أوليس

يقول لكم

في الليالي لي صفرة العاشق

لون الوجد

لون القمر

أطل عليكم لأزرع حبات قمحي

بين ضلوعكم

تثمر سنابل من تبر مصفى

ويثمر الزيتون في أعالي الأولمب

لتجري المياه

وتجري الحياة

وتجري الخمور حتى البحر

أهيئ حبا كي تطول الحياة

ويصبح لذرة الرمل معنى

ولدم الغزال عطر فردوس

وللشجرة ألف غصن

وألف حياة

تظلل ألف عاشق وعشيقة

في مهرجان باخوس

كي تطبع شفاه الحبيب

حمرتها على شفاه الحبيبة

أنا فينوس

أحمي أسوار طروادة

أبارك باريس وأيلين

أهبط من فردوسي الأعلى

كلما خفق قلب بعشق

وكلما احمرت شفاه الحبيبة

من فرط قبلة

تعيد الحياة لأولها

وتجعل مني آلهة للحب

أنا العشق في مليون صورة

أنا اللحظة الخاطفة

أنا ساكنة الشفاه

لغتي إله

حين تضيق السماء بي

وأنا الوحيدة بين كل الآلهة

حين لا يكون العشق جسرا

بيني وبين العاشقين

أرفع صوتي بالغناء

أنا التي تعيد الحياة

للنار والماء وشجرة الغار

للسماء وللبحر

للأرض وما تحتها

للبشر الأوائل وما بعدهم

في قبلة واحدة.

٭ ٭ ٭

طريقة ثالثة في كتابة النص نفسه

لتعرفني يا بني آدم؟

أنا عشتار

آلهة الجمال وأم العاشقين

أنا العشق في كل الملاحم

أنا في سماء أور شعاع النور

تموز يعرفني

وجلجامش نام معي على سرير القصب

جميلات بابل ينذرن لي

كي تصير نهود بناتهن من مرمر نهدي

وشفاهن أرق من ماء الفرات

تقول الأغنيات لكم

إني كنت غيدة وكنت فدعة

وكنت ليلى الأخيلية

في الليالي لي تنهيدة بنت الجنوب

لون وجهي لون القمر

أطل عليكم لأزرع حبات الرز

بين ضلوعكم

تثمر سنابل من فضة مصفاة

وتثمر النخلات في أعالي شط العرب

لتجري المياه

وتجري الحياة

وتجري الخمور حتى الخليج

أهيئ حبا كي تطول الحياة

ويصبح لذرة الرمل معنى

ولدم الغزال عطر فردوس

وللشجرة ألف غصن

وألف حياة

تظلل ألف عاشق وعشيقة

في مهرجان قيس وليلى

كي تطبع شفاه الحبيب

حمرتها على شفاه الحبيبة

أنا عشتار

أحمي أسوار أور

أبارك تموز وجلجامش

أهبط من فردوسي الأعلى

كلما خفق قلب بعشق

وكلما احمرت شفاه الحبيبة

من فرط قبلة

تعيد الحياة لأولها

وتجعل مني آلهة للحب

أنا العشق في مليون صورة

أنا اللحظة الخاطفة

أنا ساكنة الشفاه

لغتي الآه والموال

حين تضيق السماء بي

وأنا الوحيدة بين كل الآلهة

حين لا يكون العشق جسرا

بيني وبين العاشقين

أرفع صوتي بالغناء

أنا وخلي تسامرنا وحچينة

أنا التي تعيد الحياة

للنار والماء والنخل

للسماء وللبحر

للهور وشط العرب

لأرض بابل وما تحتها من كنوز

للأجداد الأوائل في نفر والوركاء ومن بعدهم

في بغداد والحلة والدجيل

في قبلة واحدة.

كاتب عراقي






شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي