الأفقُ هنا قشّة

2022-11-10

هدى فخر الدين

بلد ركيك… ركيك في أسمائه، في عبثه،

ركيك في وحشته، في ازدحامه، في تفرده، في سأمه.

بلد يتكاثر على جانبي الطريق السريع،

مقابر تزحف نحو إشارات المرور، فيقف الموتى على قارعة الطريق،

ينتظرون أدوارهم ليعبروا الى الجانب الاخر.

طرقات سوداء تلتف حول أعناق غابات بكر

وشجر ساهم يرخي جذوره في الأرض الحبيسة.

ونحن، هذه الجزيئات المتهالكة، من يعيننا،

من يرشدنا في عتمة الوقت ليجد بعضنا بعضًا،

لتمسك واحدة يد الأخرى، في هذا النزوح العظيم؟

جزيئات مستوحشة، من يسعفها؟ وأي حيوان ليحتضنها، أي فضاء أبيض لتهيم فيه؟

٭ ٭ ٭

وفي السماء الخاوية

شموس متعاقبة،

ثقوب صفراء

خلفتها أيام أولى،

أساطير بدايات قريبة، نظلّ نتذكرها

ونتقفى أثرًا لها في هول الأيام المستعادة.

٭ ٭ ٭

الأفق هنا قشة

والضوء حنق يتمادى،

وهذا البلد ركيكًا يتهالك

على الطريق السريع،

يتقفى محناً لا تحين.

٭ ٭ ٭

مدن عظيمة

تعرج على جسورها المتداعية.

تعجّ وتقفر بلا سبب.

مدن تتطاول وتتهاوى،

تتنفس وتختنق

ثم تنحسر،

تلفّ ضواحيها كأذيال رثة

وتنام غريقةَ أوهامها.

٭ ٭ ٭

أما العجوز الصينية التي تملك دكانًا

على قارعة العالم، هناك،

بين محطة البنزين والمعبد البوذي،

فتظلّ تسقط في الزيت الأحمر

فقاعات من العجين.

تودع كل واحدة سرًا،

غمزةً في خاصرة الغيب.

٭ ٭ ٭

وهناك حيث ينتهي الشجر، مقهى

يرتاده موتى لم تسقط أسماؤهم من السجلات بعد.

لم يتحرّروا من طقوسهم اليومية.

ما زالوا يدفعون الضرائب في مواعيدها.

يصحون باكرًا، ينتعلون أحذيتهم الثقيلة

ويتهادون في أول الضوء،

نحو قارعة الطريق

هناك،

حيث ينتهي الشجر.

٭ ٭ ٭

وفاطمة التي حزمت بقايا حيواتها

في حقيبتين، واحتارت كثيرًا

قبل أن ترمي الرسائل التي أعيدت إليها

من مكتب السجن،

تسكن قلب المدينة لأنها تخاف الأطراف.

منذ شُردت أولَ مرة،

والتفتت خلفها سريعاً لتلمح يدَ والدها

ترسم جسرًا في الهواء،

وهي تخاف وحدتها،

تخاف أن تزلّ قدمها

على الأرصفة النظيفة،

فيبتلعها شبح ألفته يتصيدها

في المدن الغريبة.

طهران في البال

ومشهد على طرف اللسان

وهذه مدينة جاحدة أخرى،

عمياء كما المدن،

لا تكترث للأحلام

التي تفد إليها لاهثة

من زوايا العالم.

٭ ٭ ٭

وخلف الشارع الأربعين

بيت هشّ كوّم فيه أحمد

حجارة من فلسطين.

الجيران في هذا الحيّ خرس

لا يعرفون للكلام بابًا.

يلتزمون طقوسهم الضيقة:

قهوةً في الصباحات السقيمة،

تشذيباً لما يحيدُ من عشب،

غرفًا معتمة ترتفع فيها الموسيقى

لتخفي نحيبًا طويلًا آخر الليل.

أية مدن قديمة ليضيعَ فيها؟

أين هي الأزقة التي توصل إلى أبد قريب

والسطوح الأليفة حيث تنام شمس أليفة؟

للنهار هنا لسعة ولليل لسعة،

والطرقات تطول ولا تصل،

تتمادى حنقًا

وأحمدُ يبني هياكل من ورق

يختبئ في غفلةٍ بين هذه اللغة وتلك

ويعين للعودة مواعيد لا تحين.

٭ ٭ ٭

الوقت هنا سهل

لا قممٌ ولا حزون.

سهلٌ لا نجاء فيه،

ينبسط ويستطيل

سدى.

يسيل

دمًا خائنًا،

لا يحنّ،

لا يدور دورته.

متهالكاً في عروق

هذا البلد الركيك،

يجري،

عابراً،

يُهدر نفسه،

غافلًا بلا هدى.

فلا قلب ليعودَ إليه،

ليهويَ في عتمته.

لا تسنح لحظة ولا تزول لحظة

هنا

اللحظات كلها صرعى تتكدس

على جانبي الطريق السريع

للنهار لسعة ولليل لسعة،

والطرقات تطول ولا تصل،

تتمادى حنقًا.

كاتبة وأكاديمية لبنانية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي