
نيويورك: لم يكن أحد يتوقع قبل سنوات قليلة أن ينجح الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إجناسيو لولا دا سيلفا في العودة إلى الرئاسة عبر الانتخابات الرئاسية التي فاز بها أمس. وفي خطابه بمناسبة فوزه على منافسه الرئيس المنتهية ولايته جاير بولسونارو، كان صوت دا سيلفا /77 عاما/ أكثر خشونة وأجشا بما يعكس مدى الجهد الشاق الذي بذله في المعركة الانتخابية. واختار دا سيلفا كلماته بعناية وجاءت هادئة وصحيحة وممتنة للشعب، وتدعو للتقدم الاقتصادي والمصالحة.
وقال دا سيلفا أمام حشد من أنصاره "لا أحد يريد الحياة في دولة تعيش دائما في حالة حرب".
في المقابل التزم بولسونارو الذي أصبح أول رئيس للبرازيل يفشل في الفوز بفترة حكم ثانية، الصمت بعد إعلان نتيجة الانتخابات وفي العاشرة من مساء الأحد أطفئت أضواء القصر الرئاسي.
وفي تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء قالت المحللة الاقتصادية كلارا ماركيز إن الفارق بين أصوات لولا ومنافسه بولسونارو هو الأقل في تاريخ الانتخابات البرازيلية، حيث لم يصل إلى نقطتين مئويتين ، في حين تكشف خريطة الانتخابات البرازيلية إلى الخلافات العميقة بين الشمال الشرقي المؤيد للولا والأقل نفوذا، والجنوب المؤيد لبولسونارو. وهناك أيضا انقسامات حادة أيديولوجية وعرقية ودينية واجتماعية. وخسر لولا في الانتخابات ولايات مكتظة بالسكان مثل ساو باولو، وفي الواقع فإنه فاز فقط في 13 ولاية من بين 26 ولاية ومقاطعة اتحادية تتكون منها دولة البرازيل.
وبحسب تحليل كلارا ماركيز فإن الرفض للزعيم اليساري لولا دا سيلفا رغم فوزره بالرئاسة مازال قويا، نتيجة تحقيقات الفساد الواسعة التي ساهمت في الإطاحة بخليفته الموالية له، ديلما روسيف، حيث تم سجنه بالفعل، قبل أن يتم إلغاء حكم إدانته فيما بعد. وكما هتف الكثيرون في الشوارع يوم الأحد الماضي، فإن نصف البلاد فقط هي التي ابتهجت بفوز لولا الذي لن يتم تنصيبه قبل كانون الثاني/يناير المقبل مما يتيح وقتا طويلا للأزمات والخلافات.
وفي ظل هذه الظروف، فإن لولا سيجد نفسه في موقف لا يحسد عليه، حيث سيواجه صعوبات أكبر كثيرا من تلك التي واجهها عندما تولى رئاسة البرازيل في المرة السابقة قبل عقدين. ونظرا لنشأته الفقيرة، نجح لولا في التصدي لأسعار السلع المرتفعة، من أجل تحسين معيشة البرازيليين الأشد فقرا وتقليل نسبة الفقر الشديد، والحد من التفاوت الطبقي، من خلال برنامج للدعم النقدي للفقراء. وقد وعد لولا بتكرار إنجازه السابق في ولايته الجديدة التي ستبدأ مطلع العام المقبل، مع إعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح وعلاج الأضرار التي لحقت بالبيئة.
لكن الظروف الآن تختلف عن الظروف في مطلع القرن الحالي عندما وصل لولا إلى السلطة. فليس هناك ازدهار لأسعار السلع، واستراتيجية "صفر إصابات بفيروس كورونا" في الصين تقلص الطلب على الصلب والحديد الخام الذي تنتجه البرازيل. كما أن العالم يتجه الآن نحو التراجع، وهو ما يعني تراجع إيرادات الحكومة البرازيلية خلال العام المقبل.
وإذا كانت مهاراته السياسية وجاذبيته الشخصية قد سمحت له ببناء تحالف واسع بما يكفي لتأمين تفوقه في الانتخابات على الآلة الرئاسية لمنافسه بولسونارو، فإنه يحتاج الان إلى بناء المزيد من الجسور مع القطاعات والتيارات التي لم يسعدها فوزه في الانتخابات. فقد أظهرت نتائج جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية يوم الأحد أن أغلب الناخبين صوتوا ضد من يكرهونه أو يرفضونه أكثر مما صوتوا لصالح من يحبونه أو يؤيدونه. كما لم يحقق لولا فوزا كاسحا، ولا حتى ديمقراطيا. فإذا فشل لولا في الوفاء بوعوده أو تدهورت أوضاع الاقتصاد بصورة أكبر، فإنه سيفتح الباب أمام عودة بولسونارو إلى الحكم أو حتى أمام وصول شخصية أكثر يمينية وتطرفا من بولسونارو إليه.
وعلى رأس التحديات التي تواجه لولا تأتي ضرورة طمأنة المستثمرين الخائفين، الذين ربما يشعرون بالارتياح لعدم تفجر الفوضى بعد إعلان نتيجة الانتخابات، لكنهم يشعرون بالقلق مما سيأتي بعد ذلك. والسجل الاقتصادي السابق للولا سجل برجماتي، وحتى الآن لم يقدم سوى تفاصيل قليلة، باستثناء خطاب الفوز الذي وعد فيه بالجمع بين وعوده الاجتماعية والمسؤولية المالية، مؤكدا ما كتبه للبرازيليين في عام 2002.
كما يحتاج لولا إلى توضيح كيفية تحقيق التوازن بين الاحتياجات الضخمة للشعب والديون الباهظة المستحقة على الدولة، والبدء بتعيين وزير مالية يثق به المستثمرون.
وأشارت كلارا ماركيز إلى أن محافظ البنك المركزي البرازيلي ووزير المالية السابق هنريك مايرليز يأتي في مقدمة المرشحين لهذا المنصب.
كما أن لولا في وضع جيد لاستعادة مصداقية البرازيل الدولية، بدءا من الالتزامات بشأن التعامل مع قضية المناخ، في ضوء التدمير واسع النطاق لغابات الأمازون في عهد بولسونارو. كما يحتاج إلى إعادة بناء المؤسسات المعنية بمراقبة وحماية البيئة والسكان الأصليين.
وبعد ذلك سيكون على لولا تحديد كيفية المضي قدما في تحقيق المصالحة الوطنية، من خلال جهد منسق لتفكيك التراث السام لسلفه بولسونارو دون أن يحقق في هذا التراث.
وإذا كان لولا تمكن من هزيمة بولسونارو كشخص، فإن المعسكر الذي يمثله الأخير لم يهزم، والكثير من رموزه يقودون ولايات ويحتلون مقاعد في مجلس الشيوخ، وهو ما يفرض على الرئيس المنتخب الدخول في حوار مع المجموعات الإنجيلية المحافظة والمؤسسة العسكرية، التي لم تعترف حتى الآن بنتيجة الانتخابات الأخيرة. وسيحتاج لولا إلى العمل من أجل الحصول على تأييد جنرالات المؤسسة العسكرية، وإعادة ضبط العلاقة بين المؤسستين العسكرية والمدنية، مع العمل على إعادة الجنرالات إلى ثكناتهم تدريجيا، وهو ما يعني تعزيز المؤسسات الديمقراطية في البلاد.