سِيرةُ الهوامش: حِكايةُ جندِيٍ اسمُه هِشام

2022-10-15

مروان ياسين الدليمي

« الحرب التي خضناها ونحن في مقتبل أعمارنا، كنّا ندافع فيها عن أنفسنا أولا وأخيرا، إذ ليس من السهل أن تكون هاربا، إذا ما كنتَ إنسانا تربَأُ بنفسك عن التورط بالتعدي على حقوق الآخرين، وتحرص على أن تصون سمعة العائلة التي تحمل اسمها» هذا ما قاله صديقي هشام الكيلاني قبل سنين، وأجد نفسي اليوم في حالة اقتناع بما قاله، رغم أن ثيابنا العسكرية باتت مجرد خرق تُمسح بها أرضية المرافق الصحية في الأماكن العامة، حتى أنني ازددت يقينا من أنه لم يكن يدَّعي ما ليس مؤمنا به، بل كان يتحدث بواقعية وهو يردد على مسامعي أسباب عدم هروبه من الجيش وبقائه جنديا رغم شراسة المعركة، وطول أيامها التي سلبت منه شبابه، ومن ثم لفظته عند أعتاب الكهولة.

البحث عن مكان

صديقي الذي خذلته الدّولة من بعد أن راوغ الحرب ونجح في أن ينسلَّ من بين مصائدها، ما زلتُ ألتقيه بين فترة وأخرى في مكتب صغير يتولى إدارته يعود لواحدة من الوكالات المحلية للإعلان الصحافي، والمكتب لا يتسع لأكثر من ضيف واحد، بسبب ما يتكدس فيه بشكل فوضوي من صحف محلية بائسة لا تصلح حتى أن تُفرش على منضدة للطعام، لأنها ستدفع من كانت شهيته مفتوحة على الأكل إلى التقيوء، إلاّ أن سكان المدينة، اعتادوا على أن ينشروا فيها إعلاناتهم ، فهذا إعلان عن فقدان بطاقة شخصية، وإعلان عن قرار صادر من محكمة الأحوال الشخصية، وآخر عن شخص خرج من البيت ولم يعد.

غالبا لا أجد مكانا للجلوس، فأضطر إلى البقاء واقفا طيلة فترة زيارتي له، وإذا ما أُتيحت لي مساحة لكي أجلس على كرسي صغير مخصص للضيوف، عندها يصعب عليّ أن أحرِّك قدميّ ولو بمقدار خطوة إذا ما شعرت بتصلبهما. لم يكن ظرفه العائلي منصفا معه أيام طفولته، لأنه كان يعمل يوميا بعد خروجه من المدرسة خلف بسطيّة لبيع حاجيات نسائية رخيصة الثمن مثل، أدوات الزينة، كان قد سمح له أحد أقاربه في أن يفرشها أمام دكانه رأفة به، حتى يساعد عائلته بما يكسبه من مال بسيط لمواجه تكاليف الحياة، فرسب لثلاث سنوات متتالية في الصف الأول المتوسط، وفي هذه الحالة كان القرار الحكومي يقضي بفصله من المدرسة والالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، وعلى العكس منه لم أجد صعوبة في دراستي، رغم أنني كنت غير مهتم بتحضير الدروس مثل بقية الطلبة الذين كانوا يبذلون جهدا كبيرا مقارنة بي، فينالون جراء ذلك درجات عالية، ويمكن وبقليل من المبالغة أن أصف مستواي الدراسي بالمقبول، لذا كان انتقالي سلِسا إلى مرحلة الثالث المتوسط.. ومن بعد أن أصبح هشام جنديا، افتقدناه بيننا نحن زملاءه أعضاء فرقة المسرح في مركز شباب الثورة، عندما كنّا نلتقي عصر كل يوم لأجل أن نجري التمارين على العرض المسرحي الجديد.

رسائل من الحرب

مضى عام كامل وهو يتنقل بين جبال كردستان مع وحدته العسكرية، وكانت الحرب آنذاك سجالا بين السلطة في بغداد وقوات البيشمركة الكردية، وأحيانا كانت نيران القتال بينهما تشتد لتحصد أرواحا كثيرة من الطرفين المتحاربين.. وخلال دراستي في المرحلة الثانوية كانت تصلني منه رسائل طويلة يتحدث فيها عن أيامه الموحشة هناك، وكيف يقضيها محاصرا بالصمت والخوف والبرد القارس، خاصة عندما تنقطع الطرقات وتُغلق جميع المنافذ بسبب تساقط الثلوج لأيام وليالي متواصلة، فلا شيء كان يُبدد إحساسه بالغربة وسط بيئة قاسية لا تبعث على الاطمئنان، سوى القراءة والكتابة من بعد أن ينتهي من الواجبات التي أمره بإنجازها رئيس عرفاء الوحدة، كَأنْ يتَتبَّع في عتمة الليل خَطَّ هاتفٍ عسكري تم تخريبه، فيعمل على إصلاحه ويتأكد من عودته إلى الخدمة، أو يزيح بالمجرفة مع زمرة من جنود الوحدة ثلجا متكدسا ليفتح طريقا أمام الآليات العسكرية التي كانت مهمتها نقل صناديق العتاد والأغذية الجافة من الوحدات الإدارية التي عادة ما تكون مقراتها بعيدة عن أماكن القتال. وبينما صديقي المرح بطبعه ما يزال يرتدي البزة العسكرية انتقلتُ إلى الدراسة الجامعية في بغداد عام 1980 ولِأنَّ رسائله لم تكن تنقطع عني، لذا كنت على معرفة بمسار تنقلاته أولا بأول، إذ كان حريصا على أن يختمها من بعد الدعاء والسلام بكتابة اسمه والمكان الذي عسكرت فيه وحدته العسكرية، ورغم تعليمه البسيط آنذاك إلاّ أن سطور رسائله كان يتدفق منها بوح خافت، يشي بما كان يشعر به من غربة وهو بعيد عن أهله، مقذوفا عند بقعة جغرافية موحشة بفضائها الواسع.

زيارات إلى الكلية

اعتدنا أن يزورنا في بغداد نحن أبناء مدينته الذين كنّا ندرس في كلية الفنون الجميلة، فكان حريصا على أن يغادر الموصل قبل أن تنتهي إجازته الشهرية بيوم واحد، لأجل أن يقضي يوما كاملا بصحبتنا، أنا والراحلون ، جلال جميل وريسان رشيد وعبد الرزاق إبراهيم، ومعنا أيضا بقية زملائنا المقربين في كلية الفنون، فيدخل معنا إلى المحاضرات والتمارين المسرحية من بعد أن نخبر أساتذتنا، في ما بعد لم نعُد بحاجة لكي نستأذنهم لأنَّه نال محبتهم، وإذا ما ودَّعَنا النهار وزحف الليل على بغداد على وقع البيانات العسكرية، كنّا نصحبه في جولة في شوارع الوزيرية ونختتم الجولة بجلسة عشاء في واحد من مطاعم الاتحادات الطلابية العربية، ثم نعود أدراجنا إلى القسم الداخلي ليحل ضيفا علينا، فنقضي ساعات من الدردشة في جو يسوده المزاح مع بقية زملائنا، ونحن نتنقل بين غرف القسم الذي يضم طلبة من جميع مدن العراق.

في فجر اليوم التالي وقبل شروق الشمس يغادرنا متوجها إلى وحدته العسكرية، حيث كانت الحرب تكتب فصولها الملتهبة في الجبهات، ودائما ما كنّا نوصيه أن يكون يقظا، لأن الحرب عمياء، ولا بد له من أن يحافظ على حياته، ومراهنتنا كانت تستند إلى يقين هش يجعلنا نعتقد بأن القدر الإلهي له الكلام الفصل في آخر المطاف، مع أننا لم نكن على ثقة أبدا من أن الحرب يمكن مراوغتها أو السخرية منها.

مراوغة الموت

بعد أربعة أعوام أنهيت دراستي في الكلية وصديقي ما يزال جنديا يتنقل بين الجبهات، ولم يفتر حماسه في تدوين تفاصيل أيامه التي كانت تقرضها الحرب مثلما كانت تقرض الفئران الأكياس الرملية التي كان يُحصِّن بها جدران ملجأه، ومثلما اعتاد أن يفعل كان يضع توقيعه في أسفل الورقة من جهة اليسار مع تاريخ اليوم الذي انتهى فيه من كتابة الرسالة وتحته يكتب اسمه الثلاثي، في حينه كنت أرى دافعه للكتابة ليس إلاَّ محاولة منه للتواصل مع الحياة التي فارقها رغما عنه، أما بالنسبة له فإن الرسائل كانت أفضل وسيلة لكي يقهر بها الموت الذي كان يتربص به، لأنه كان يعتقد بإن الموت قادر على إنهاء الحياة في صورها كافة، لكنه سيبقى عاجزا عن محو ما دوَّنه في الرسائل التي كان يبعثها لي، فالأفكار كما كان يُرددُ أعظم من أن تفنى إذا ما كانت تمجد الإنسان والحياة والحرية .

هل نشعر بالامتنان؟

بعد تخرجي من الكلية كان لا بد لي من أن ألتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية، فها قد جاء اليوم الذي لم يكن يخطر على بالي أبدا عندما أصبح كلانا جنديا في الحرب، ولا فرق بيني وبينه أمام قسوتها وعدالتها المنقوصة، لكنه تقدم عليّ بخطوات في تجربة ضراوتها من بعد أن تمرَّس فيها وأمسى خبيرا في مواجهة نذالتها.. ولأن جبهة القتال بين البلدين كانت شاسعة جدا تمتد بمسافة تصل إلى 1500كم، تبدأ من شمال البلاد وتنتهي عند أقصى نقطة من جنوبها، لذا ستكون صدفة نادرة إذا ما التقينا في مكان منها، بل حتى لم يصدف أبدا أن التقينا في إجازاتنا الشهرية، وبناء على ذلك فإن الرسائل التي كان كل واحد منّا يتركها في بيت الآخر قبل أن يلتحق بوحدته العسكرية هي من تكفَّلت بأن تحافظ على صداقتنا حيّة رغم أنف الحرب .هل يتوجب عليه أن يشعر بالامتنان لأنه نجا من الموت الذي كان قريبا منه أكثر من مرة؟ هل لا يزال يملك ما يكفي من الأمل ليفتح ذراعيه للحياة من بعد أن سرقت منه ثلاثة عشر عاما هي ذروة شبابه؟

استراحة مؤقتة

تسرَّحنا أنا وصديقي من الجيش بعد أن توقفت طبول الحرب وصمتت المدافع، وبدأ كل واحد منّا يعمل على استعادة ما تبقى له من رصيد أحلامه، طاويا صفحة الماضي إلى الأبد.. من ناحيتي قررت الزواج وتوديع حياة العزوبية، بينما صديقي كان قد تزوج مذ كان جنديا وله من الذرية بنتان وولد، ففكر أن يفتح مشروعا صغيرا يحقق له قدرا من الاكتفاء الذاتي يبعد عنه شبح الفقر، وقبل أن نملك الوقت لنلتقط أنفاسنا المتعبة من ثقل السنوات التي مرت علينا، تمت دعوتنا لأداء خدمة الاحتياط بعد أن غزا الجيش دولة الكويت، فارتعشت آمالنا تحت هاجس الحرب التي عادت لتطرق أبوابنا مرة أخرى .

لمِن النياشين؟

اليوم وبعد أن أصبحنا أنا وهشام في مرحلة اكتفينا فيها بمراقبة الأشياء وهي تغادر طبيعتها، يلح عليّ سؤال واحد: هل كُنّا على خطأ عندما لم نفكر في الهروب من الحرب؟ غالبا ما أجدني لستُ نادما على موقفي. لكن في بعض الأحيان عندما أكون في حالة إحباط شديد أشعر بأننا قد ارتكبنا خطأ فادحا بحق أنفسنا، لأنّا أصبحنا على الهامش، بينما النياشين ذهبت إلى من بصق على تراب دفنّا فيه زهرة شبابنا.

لن أُفرط في طرح أسئلة موجعة، فأنا لا أريدُ أن أعكر مزاجي أكثر مما هو متعكِّر من أخبار لصوص البلاد وهم يجتمعون منذ شهور في ما بينهم لتشكيل الحكومة ولم يفلحوا، والأفضل من هذه الوضاعة المستشرية، أن أتصفّح الإعلانات في رزمة الصحف المحلية التي أصرَّ صديقي هشام أن آخذها معي إلى البيت.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي