
ماجدة حمود
إلى روح عماد شيحة التي علمتنا أن نحاول العيش أحرارا رغم القيود!
أن نبحث في الظلمة عن نور الإبداع والعلم! أن نحتمل أيام القهر والمرض بالعمل!
أن نحوّل الكلمة إلى رسالة قداسة! علمتنا أن نبتعد عن المتاجرة بآلام الماضي، وتسوّل المعجبين! أذكر أنني حين طلبت منك سيرتك الذاتية من أجل دراسة، أعدّها عن الرواية السورية، أرسلتها دون الإشارة إلى تجربتك في السجن، وحين ناقشتك في هذه التجربة المحورية في حياتك، أعلنت رفضك التأثير في المتلقي بأي عامل خارج الإبداع! وقلت: «النص يتحدث عن نفسه من داخله». لهذا لم يرحل عماد شيحة، ما زالت كلماته، تسير بيننا، ترافق هموم الوطن، وتنطق بقهر أبنائه وأحلامهم، لم تستطع جدران الظلمة، ثلاثين عاما، سجن إرادته! فقد تبتل في محراب الكلمة المقاومة، لذلك حين نتأمل إنجازاته إثر خروجه من تلك الظلمة (2004) يدهشنا تنوعها، فلم تقتصر على الإبداع الروائي، «موت مشتهى» «عبار الطلع» «بقايا من زمن بابل» بل امتدت إلى الفكر السياسي، الاقتصادي، الديني… وإلى الترجمة التي أغنت المكتبة العربية (حوالي عشرة كتب) إذ تناولت قضايا مهمة في شتى المجالات الحيوية، التي تعزّز ثقافة التنوير ومقاومة الاضطهاد في أشكاله كافة!
حين أتأمل إنجازاته على مدى ثمانية عشرة عاما، أقول لم يضع عماد شيحة أيامه هباء، فقد حوّل حياته المقيدة إلى معلّم، يفتح أمامه آفاق شمس، تنقذ روحه من الغرق في لجة اليأس، مثلما حوّل حياته الحرة إلى عمل، يضيء ظلمة أيامه! أدرك أهمية أن يعيش الإنسان حياته مقاوماً للضياع، ورفض أن يتحول إلى (بقايا) ذكريات نضالية! كما رفض أن تُختزل في مرارة الماضي، فقد حملت روحه إرث حضارة عظيمة، تمتدّ آلاف القرون، لذلك أراد بإبداعه وفكره أن يحميها من أن تتحول إلى فتات، يستلب كرامة الإنسان، ويدمر أحلامه! وهذا ما لاحظت في روايته «بقايا من زمن بابل» (2007) فقد امتلك قدرة تنبؤية، تستشرف مستقبلاً مظلماً، إذ عاش بنفسه واقعاً، يحاصره البؤس، ولاحظ انتعاش أفكار مظلمة، تستعبد الإنسان، وتنتهك طفولته، وتعزّز خطفه، وقتله على الهوية! لذلك كان مهموماً بتحذير المتلقي من الضياع، عبر لغة حساسة تبتعد كل البعد عن لغة الشعارات والخطابات، فتبدو مؤثّرة في الوجدان، لتدفع المتلقي إلى رفض حياة تتحول إلى (صفقة خاسرة) إنها تهزّ ضميره وفكره؛ وتحرضه على العمل ليغيّر نفسه، ويطوّر معارفه، مثلما يرهف حواسّه، ويمتّع ذائقته؛ كل ذلك من أجل النهوض بوعيه! لعله يساعده في تغيير واقعه على أسس علمية معرفية؛ تنقذه من رعب التخلف والاستبداد! ومن التيه في ظلمة إرهاب فكري، يحوّل حلم التغيير إلى كابوس!
لهذا لن نستغرب أن يختار لبطله اسم (غريب) فهو يحمل أفكاراً، بدأت تنتهك يومياً! كما اختار له مهنة (التدريس) تحمل دلالات رسالية، جعلها إحدى منافذ المقاومة في حياته؛ لهذا أنطقها برغبته في تغيير بؤس واقعه، وبناء مستقبل أفضل؛ فبدأ بعقول تلامذته محاولا أن ينفض الغبار عنها، ويبث فيها روح الابتكار، التي تحتاج إلى عقول حرة مبدعة، تبتعد عن الاجترار والتقليد، وترفض القهر والظلام، وبذلك يلمح إلى أن تشويه الإنسان يبدأ من البيت والمدرسة؛ ليتابع مسيرة انحطاطه أو رقيه في مراحل مقبلة من حياته، فإما أن يستجيب لما يلغي عقله، ويمسخ روحه، أو يرفض، بمعنى آخر إما أن يكون آلة، يعبث بها الآخرون، وإما إنساناً فاعلاً، يطوّر حياته ووطنه.
رغم لغة العنف والإحباط التي حاصرت (غريب) استطاع أن يحافظ على روحه النقية، التي تنظر إلى العالم بعين الحب، وتنطق بلغة الشعر، فقد وجد فيها ملاذا للقيم العليا، التي تنهض بروح الإنسان، وتمنحه القدرة على مواجهة بؤس قهر الأحلام! وكذلك أنطق المرأة (وصال) هذه اللغة أيضا؛ ليجعلها أملاً، يجسد الطموح إلى كل ما هو جميل وراق؛ لهذا جعلت حياتها تجسيداً للغة الحب! فهي مثلاً لن تستطيع إزاحة الهم عن صدرها إلا حين تعانق هموم الآخرين! دون أن يعني هذا إغفاله الشخصية النقيضة (مشيرة) مما يضفي حيوية على فضاء الرواية!
انتبه إلى السياق الاجتماعي، وما يحاصره من قيود الانغلاق على الذات والخوف من الآخر، فاقتحم مجالات مسكوت عنها في أغلب الروايات العربية، إذ عايشنا في روايته زواجاً بين مسلم ومسيحية، كما فضح تراجع الانفتاح على الآخر، ليوحي بمدى تراجع القيم الجميلة في مجتمعنا؛ إذ نجح لديه زواج جيل الآباء (غريب ووصال) وفشل جيل الأبناء (وديع ومنال)! فبدل أن يتطور العربي مع مرور الزمن، وجدناه يصبح أكثر انغلاقا! عندئذ يحس المتلقي كأننا نسير إلى الوراء!
وقد استخدم عماد شيحة في مواجهة هذا الانغلاق لغة التناص الديني (التوراة، الإنجيل، القرآن) فأنطق بها معظم شخصياته، وتعمّد اختيار ما يضفي روح المحبة، ويساعدها على مواجهة ظلمة العنف والقهر، لتحفّز لدى المتلقي الرغبة في التطهر من الظلم والاستبداد والانفتاح على إنسانية الإنسان؛ لهذا سلّط الضوء على شخصيات تحترم الاختلاف؛ فتتقبّل رموزه، ليعيّش المتلقي في فضاء التسامح والحب؛ وقد ساعده في ذلك اتساع ثقافته قدر اتساع حساسية إنسانيته ولغته! من هنا تبدّى التناص الأسطوري، وهو يربط حضارة الماضي بالحاضر؛ فأصبحت الدلالة لديه أكثر حيوية وفاعلية في الوجدان، خاصة أن الشخصية الأسطورية، التي تعدّ مكوناً أساسياً من مكونات اللاوعي الجمعي، الذي يستطيع أن يعيد إلى الأذهان المكانة الرفيعة للمرأة في بداية الخليقة؛ لهذا سلّط الروائي الضوء على معاناتها، بعد أن غادرت تلك الفترة؛ لتعيش بؤس انكفاء حياتها!
كل ما يهمه هو أن يوظّف لغته السردية في مقاومة عوالم القهر، وكل ما يستلب إنسانية الإنسان، صحيح أنه يقدّم للمتلقي فرصة عيش قبح الحاضر وبؤسه، لكنه من أجل أن يبيّن له ما ينتظره من ظلمة المستقبل، إن لم يواجه الفساد والقهر!
يسجل لعماد شيحة تنوّع فضائه المكاني، إذ لم نجده حاقدا على فضاء المدينة، مثل بعض كتّاب الريف، إنه يقدّم نظرة متوازنة، تعوّل على الإنسان، الذي يهب المكان معنى وجمالا أو قبحا؛ فيعيش المتلقي في روايته مشاهد مؤثرة، تنبض إنسانية، تجعل الريفي والمدني في كفة واحدة (مثل مشهد طفل ريفي لا يعرف عنوان أقاربه في المدينة). ومما منح روايته سحراً في رأيي حضور لغة الطبيعة بكامل بهائها وحساسيتها؛ إذ تشارك البطل (غريب) أحزانه (الأشجار تنـزف، ويُسمع صراخها) بل جعلها مصدر تجدد للإنسان، تغذي وجوده على الأرض، وتمنحه قوة الانبعاث، مثلما تمنح الأشجار نسغاً جديداً! استطاعت هذه اللغة أن تنشئ علاقة استثنائية بالطبيعة بين الإنسان الشريف وأرضه، عايشناها في صورة مدهشة، تربط جسد الإنسان وروحه بأرضه، حتى إنه يغذّيها مثلما تغذيه: «لملمت جسدك الموّزع بين الغيم والتراب والصخور والأشجار، وحملته مع تيار الماء المنحدر جنوبا بانعطافة نحو الغرب…».
قد يتساءل البعض: لِمَ حمّل الروائي خاتمته دلالات عنيفة؟ (استباحة كرامة الإنسان، اغتصاب الزوجة أمام زوجها، قتلها حين قاومت…). لعله تعمّد أن يجعل هذه الدلالات ترافق المتلقي، لتقلقه بعد انتهاء تلقي الرواية، فتتلبّسه حالة من المرارة، إذ يؤرقه ضياع إنسان مفعم بالحب والنبل والرغبة في التغيير، لكنه حاول في المشهد الختامي أن يخفف هذا التوتر، حين بثّ الأمل في النفس عبر حلم، يبرز الطفلة (نجاة) خير منقذ من واقع بائس «ستقف نجاة أمام شاهدة قبر تتلمس بأصابعها الحروف السوداء، وتنقلها إلى وجيب قلبها المتدافع». توحي هذه الحركة الأخيرة للطفلة، بأن القيم التي عاش من أجلها البطل، الذي يتماهى مع عماد شيحة، ومات، ستبقى حية في قلبها الغض كصنوبر فتي، يغتسل بالموج، ليعيش الفرح، ويضحك للريح!
استطاعت لغته الحساسة هذه تقديم المحرمات الثلاث (الدين، الجنس، السياسة) بعيداً عن الابتذال، الذي تعانيه بعض الروايات العربية، إذ تتبدى لنا اللقاءات الحميمية بين الرجل والمرأة عبر لغة شفافة مرهفة، تكاد تقترب من الشعر!
أعتذر من روحك النبيلة على هذه الوقفة السريعة، فأنا أعرف أن منجزك الإبداعي والفكري يحتاج إلى دراسات عدة، لهذا أردت أن أشير، هنا، إلى أهميتها! لعلي أحرّض الباحثين على دراستك؛ لأنني أومن بأن تكريم الأديب في دراسته لا في تمجيده!
كاتبة سورية