
صبحي حديدي
الطائفة المسيحية المعروفة باسم Church of Scientology، أو «كنيسة العلمولوجيا» قياساً على وزن بيولوجيا أو جيولوجيا لمن يشاء، يندر أن تغيب عن عناوين الصحف الأمريكية الكبرى، وقلّة من مشاهير كتّاب الأعمدة تفلح في الفرار من مقتضيات التعليق على وقائعها (فضائحها، في الأعمّ الغالب). وثمة ما يستوجب هذه الحال، لجهة مستويات النفوذ والانتشار والمنعة التي تتمتع به المؤسسة/ المنظمة (لأنها، ببساطة، ليست مجرد طائفة دينية أو روحية). وذات يوم غير بعيد نشرت صحيفتا «نيويورك تايمز» و»هيرالد تريبيون» إعلاناً موحداً على صفحة كاملة، مذيلاً بتوقيع 34 شخصية بارزة في ميادين الفن والأدب والإعلام، يدين الحكومة الألمانية بسبب ما تمارسه من قمع على أتباع تلك الطائفة، ويشبّه تلك الممارسات بما فعله النازيون ضدّ اليهود في أوشفيتز. والصحيفتان في غنى عن التعريف، وكلفة الإعلان فيهما بحجم صفحة كاملة تبلغ عشرات الآلاف من الدولارات، وأمّا الشخصيات الموقعة على البيان فقد كانت من مستوى نجوم سينما وأدب وإعلام، أمثال دستن هوفمان وغولدي هون وماريو بوزو وغور فيدال ولاري كنغ.
كان لافتاً يومذاك، كما يظلّ مدعاة فضول وعجب اليوم أيضاً، أنّ أياً من الشخصيات الموقعة في ذلك الإعلان لم يكن ينتمي إلى الكنيسة؛ ولكنّ اللهجة بدت بالغة الحدة في توصيف السلوك «المخزي» و»المشين» للحكومة الألمانية، التي تعيد إنتاج مواقف أدولف هتلر العنصرية المتعصبة ضدّ المعتقدات الدينية إجمالاً وضدّ اليهود خصوصاً. وجاء في البيان: «آنذاك سكت العالم ووقف جانباً، وأما اليوم فإنّ الأصوات سوف تتعالى». الألمان، وشاطرهم في ذلك الفرنسيون ومعظم الأوروبيين وأعداد غفيرة من الأمريكيين، ردوّا بالقول إنّ هذه ليست طائفة دينية، بل هي «شركة بزنس»، وأنشطتها تبدأ من المضاربات العقارية ولا تنتهي عند بيع تعاليم العقيدة وقبض أتعاب مقابل شرح أصولها وفلسفتها. إنها أيضاً شبكة تخريبية تُلحق الأذى العقلي والروحي بالمنتسبين إليها، تابع المناوئون للكنيسة، وثمة في الولايات المتحدة عشرات الأعضاء السابقين ممن اتهموا الكنيسة بغسل أدمغتهم أو تدميرها، وبعضهم حصل على أحكام بالتعويض، وبملايين الدولارات. والثابت أنه في فترة صدور الإعلان ذاك، كانت قيادة الحزب الديمقراطي المسيحي، الحاكم في ألمانيا حينئذ، قد حثّت شباب الحزب على مقاطعة فيلم «مهمة مستحيلة»، لأنّ ممثله والمشارك في إنتاجه هو الشهير توم كروز، العضو في الكنيسة إياها.
لا يخفى أنّ مكانة الكنيسة من حيث الرسوخ والانتشار إنما تنهض أوّلاً على استيهامات مبهرة، عالية الخداع في تمرير القدرات التطهيرية، يمكن أن تبدأ من تشذيب الوعي وتنقية الروح وقد لا تنتهي عند تخليص «الفيزيولوجيا البشرية» من الشرور والآثام
وكروز نفسه هو بطل السجال الجديد الذي اندلع مؤخراً في الولايات المتحدة، وعمّ أربع رياح الأرض، في مناسبة عرض فيلم «توب غَنْ: مافريك»، الذي يلعب النجم ذاته دور البطولة فيه، ويحصد إيرادات فلكية هي الأعلى في تاريخ الشركة المنتجة، رغم أنه يتمّم جزءاً سابقاً حمل عنوان «توب غَنْ» أيضاً وعُرض سنة 1986. الحكاية بدأت من الممثلة الأمريكية ليا ريميني، نجمة مسلسلات وبرامج استعراضية كانت منتسبة إلى الكنيسة السينتولوجية منذ طفولتها، ثم انسحبت منها سنة 2013 وهي في الـ43 من العمر؛ وتولت تقديم السلسلة الوثائقية الشهيرة «السينتولوجيا وما بعدها»، كما أصدرت كتاباً بعنوان «مشاغِبة: النجاة من هوليود والسينتولوجيا» بقي في عداد الأكثر مبيعاً طوال سنوات. ولقد خرجت ريميني على الملأ وغردت ضدّ شخص كروز وما ينطوي عليه الفيلم من خوارق، محذّرة هكذا: «لا تدعوا جاذبية نجم الفيلم تخدعكم»؛ وأمّا زميلتها كلير هيدلي، عضو الكنيسة السابقة والتي دخلت في مقاضاة شهيرة ضدّ السينتولوجيا، فقد غرّدت معقبة: «كلا، لن أشاهد الفيلم، ولن أدعم هذا الرجل المحتال أو أتفق معه».
والحال أنّ تعاليم الكنيسة العلمولوجية هذه لا تغادر مجالات التخييل الفانتازي الحرّ الذي يمزج زيف العلم بتضخيم الأسطورة، خصوصاً وأنّ مؤسسها رون هوبارد كان بالفعل كاتب خيال علمي. على سبيل المثال، رأى هوبارد أنّ الجسد مسكون بروحَيْن خالدتين: الأولى هي الكينونة الجينية التي تمتلك ذاكرة عرقية وتترك في الدماغ مخلفات تعمل على تشويه الوعي، والثانية هي روح الـ Thetan التي هبطت إلى كوكب الأرض نتيجة مأساة رهيبة وقعت في الأعالي. وهذه الروح الثانية هي وحدها الحقيقية والخيّرة والخلاّقة… لو أتيح لها أن تتحرر من إسار الجسد. على الأرض، مع ذلك، يتوجب على المنتسب إلى الكنيسة أن ينفق بلا حساب، خاصة إذا كان مقتدراً، أو توجّب أن يسدد الملايين لشراء النفوذ والجاه والدعم. ريميني، مثلاً، وخلال 30 سنة من عضويتها في الكنيسة، أنفقت قرابة مليونين من الدولارات على خدمات مختلفة، ونحو ثلاثة ملايين أخرى لتمويل «قضايا» سينتولوجية، ومعظم الأعضاء يقتطعون من مداخيلهم ما لا يقلّ عن 500,000 دولار لبلوغ المستويات الأعلى من العضوية، وهذا قد يستغرق 20 سنة على الأقلّ.
ولا يخفى أنّ مكانة الكنيسة من حيث الرسوخ والانتشار إنما تنهض أوّلاً على استيهامات مبهرة، عالية الخداع في تمرير القدرات التطهيرية، يمكن أن تبدأ من تشذيب الوعي وتنقية الروح وقد لا تنتهي عند تخليص «الفيزيولوجيا البشرية» من الشرور والآثام. ليست الوحيدة، بالطبع، وتاريخ الاستثمارات الروحية في أمريكا يشير إلى أنها لن تكون الأخيرة أغلب الظنّ؛ ويستوي أن تجتذب طفلة مثل ريميني أو كهلاً ستينياً مثل كروز، فتصحو الأولى من الغفلة ويعمه الثاني في غيّه!