الأسطورة العالقة ما بين فلسطين والبرتغال

2022-09-30

إبراهيم نصر الله

ولد فاروق وادي في «البيرة»، توأم رام الله التي لا تفصلها عنها أي مسافة، ورحل فاروق في البرتغال.

كتب فاروق نصوصه الأولى عن رام الله، وكتب نصه الأخير عن رام الله لشبونة التي رحل فيها.

غريب أن توحد روايته الصادرة قبل رحيله بقليل فلسطين والبرتغال على هذا النحو، مكان الولادة ومكان الرحيل!

جاء في الأسطورة الفلسطينية: لقد خلق الله الإنسان من ترابين، تراب المكان الذي ولِد فيه، وتراب المكان الذي يرحل فيه.

أسطورة جميلة، أهم ما فيها أنها توحد الكرة الأرضية وبشرها، بحيث يحسّ المرء بأن كل تراب في الدنيا هو تراب مقدّس، فلعله يكون، دون أن يدري، تراب المكان الذي سيدفن فيه.

جميلة فلسطين وهي تبتكر هذا الاتساع الإنساني والحنوّ المذهل في تأملها للبشر ولكوكبنا الصغير؛ بمدنه وقراه وسهوله وجباله وأنهاره وبحاره.

لكن الأسطورة الفلسطينية التي تقول هذا، لعلها ولدت في ذلك الزمن الذي كان فيه الفلسطيني قادراً على أن يعود من موته البعيد ليدفن في تراب وطنه.

فاروق لم يستطع العودة إلى رام الله ليدفن فيها، لكنه ولد ثانية في مكان آخر أحبّه كثيرًا، هو البرتغال، وكتب عنه رواية، وكتب عن كتّابه وفنانيه، وقد نشر الكثير من ذاكرة عين المسافر وقلبه مقالات في منتهى العذوبة والجمال عن البرتغال، كما مقالات فاروق فائقة العذوبة والجمال المكتنزة ثقافياً وإنسانياً التي أصدرها في أكثر من كتاب.

لا أعرف إن كان ما كتبه فاروق عن الروح والمكان البرتغاليين كافياً لكتاب آخر سيصدر، ولكن تلك الفكرة ظلت تراوده.

.. ورحل فاروق وفي قلبه الكثير من الروايات التي طالما تحدّثنا عنها، لعل أبرزها تلك الرواية المكرسة لأبيه، وما سمعناه منه عن هذه الشخصية كان دائماً جميلاً ومؤثراً وفريداً مع أننا سمعناه مرات كثيرة.

كتب فاروق بإيقاع مختلف؛ كتابته كانت أشبه بموجات، لا أظن أن إيقاعها كان منفصلاً عن إيقاع روحه، همومه وأحزانه، شكّه وإيمانه بالكتابة وما تحتضنه من أحلام، لكنه في حياته، وهو صديق عمر، لم أره يومًا غير متعلّق بجمال ما، في رواية أو مجموعة قصصية أو كلمات أو حكاية أو حلم أو أغنية، أو حتى متاهات ذلك كله، أو فيلم؛ وقد كنا من ملتهمي السينما العالمية، بصورة لا أظن أن أحداً تفوّق علينا في هذا المجال! فيلم يومي تقريباً، إن لم يكن فيلمان أحياناً! وكنا متّفقين على أن الفيلم الجميل هو رواية مرئية بكل ما تعنيه الكلمة، وبكل ما تعنيه السينما من تنوّع في داخلها، ومن جمال وفلسفة وتاريخ وجغرافيا وأحوالِ بشرٍ يتقلبون على صفيح هذا العالم.

لكن موجات فاروق كانت تتراجع إلى داخل البحر بعيدًا حتى نظنّ، نحن الذين نعشق كتبه، أنه لن يعود إلى الكتابة أبدًا؛ هكذا يتوقف فاروق عن النشر من عام 1981، إلى عام 1993 الذي كان يكتب فاروق خلاله «رائحة الصيف» وكنت أكتب «طيور الحذر»، وكلانا يكتب متكئًا على طفولته. يقرأ فاروق روايتي وأقرأ روايته، في ذلك الزمان، ومنذ «الطيور» و»الصيف» بات الواحد منا يقرأ للآخر مخطوط كل كتاب جديد. حتى روايته الأخيرة «سوداد، هاوية الغزالة» وروايتي «طفولتي حتى الآن»، وهذه علاقة استثنائية لم أحظ بعلاقة مثلها مع مبدع فلسطيني إلا كبيرنا محمود شقير، الذي أقرأ كل مخطوط جديد له ويقرأ كل مخطوط جديد لي، ونستمع إلى الملاحظات بشفافية نادرة.

عادت موجة فاروق ثانية إلى عمق البحر، لكننا كنا واثقين أنها هناك، وكانت «سناء» الرائعة، زوجته، معنا في هذا، بل ومؤمنة أكثر منّا بأن ما في داخل فاروق كثير، ولذا لم نتوقف يومًا، معها عن مطالبته بما لم يكتبه بعد.

لكن ما بين روايته «رائحة الصيف» وروايته «عصفور الشمس» عشر سنوات من الصمت تقريباً، كتب خلالها ذلك الذي لم نكن ننتظره كثيرًا منه، قصتين قصيرتين للأطفال ومساهمة في كتاب مشترك عن ناجي العلي؛ أعمال حلمنا بما هو أكبر منها بكثير.

ثم ينقطع فاروق عن كتابة الرواية ثلاث عشرة سنة أخرى، ينشر خلالها مقالات كتبها في «سيرة الظل» بمثابة صورة عن قرب لعدد ممن عرفهم عن قرب، ويجمع قصصًا كتبها عن بيروت في «ديك بيروت يؤذن في الظهيرة»، قبل أن ينشر رواية «سرير المشتاق» التي تحدثنا عنها عشرين سنة على الأقل، وأظنه لم يكتب هذه الرواية إلا بعد أن أدرك وقوعنا الاستثنائي في حبها. وبين كتابتها وكتابة «سوداد..» لم أرَ فارق متحمسًا للكتابة كما كان متحمسًا لها من قبل، إذ نشر بين الرّوايتين مجموعته القصصية «رائحة المنجا» وكتابه «متاهات الكتابة: نبيع الكلمات، الحكايات، والأحلام».

وأشير هنا إلى أنني فُتِنتُ بسوداد أيما افتتان، حين قرأتها مخطوطة، وكنت على ثقة -بسبب ملامستها لوقائع عاشتها شخصيات حقيقية قريبة من فاروق- أن رواية أبيه هي التالية.

وإن كان من كلام محزن يقال هنا، فهو عن تفاقم معاناته بشكل متزايد مع مشكلات بصره التي راحت تتزايد مسببة له صعوبات كبيرة في القراءة، دون أن تنتصر عليه، في زمن بات فيه فاروق ينام باكرًا لهذا السبب.

لكننا كنا نتحدث طويلًا على الهاتف دائمًا، حتى صبيحة سهرة في بيتنا أو سهرة في بيتهم، فقد كان الحديث يطول إلى درجة أن سناء ومُنى كانتا تقولان أتركا شيئاً نقوله في السهرة؛ ولم نكن نتوقف، لتكتشفا فيما بعد أننا في كل مرة سهرنا فيها لم يكن الكلام والضحك يتوقفان حتى ما بعد منتصف الليل.

لكن فاروق الذي أنهى الكلام كله بجملته الأخيرة التي نطقها قبل رحيله «بدّي أكتب»، عانى الكثير، إذ لم تخل مكالمة بيننا من قوله بحرقة «كرّهوني في الكتابة»؛ فالظروف التي أحاطت بظهور أعماله الأخيرة لم تكن لائقة به وبتجربته قط.

وبعـــد: «ستة عشر كيلومتراً، ظلت تفصل لسنوات طويلة «رام الله» عن القدس، لكنها في السنوات الأخيرة طالت فأصبحت ثمانية عشر». هذا ما يقوله فاروق في مطلع روايته الأولى «طريق إلى البحر»(1980)، أما في روايته الأخيرة فتقول ياسمين: «رام الله، إنها مدينتي.. المدينة التي ولدتُ فيها وعشتُ فيها أجمل سنوات حياتي، قبل أن يجيئوا بي إلى هنا».

4200 كيلومتر تفصل رام الله عن لشبونة حيث دفنتَ في وطن فرناندو بيسوا وساراماغو والمصور الفوتوغرافي الذي فتنتْنا أعماله سيباستياو سالغادو، لكن المسافة الحقيقة فعلاً هي رحيلك نفسه، وقد وقفتْ كل هذه الحواجز الصهيونية أمام جثمانك، لتمنع الأسطورة الفلسطينية من أن تثبت صدقها، لتدفن في التراب الذي خلقتَ منه، تراب مولدك وتراب رحيلك.

فاروق.. لا تنس كتابة روايتك عن أبيك، سنظلّ ننتظرها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي