
هدى سليم المحيثاوي
ولادتي الطبيعية كانت في 23/1/1985، أمَا اليوم وبعد أن عُشت ثلاثة وثلاثين عاماً حياةَ غيري، أُعلِنُ ولادة حياتي الاختيارية، بمقاييسي وفكري ومبادئي، بعيداً عن أفكار القبيلة أو القَبلِية، حيث قضيتُ الثلاث السنوات الأخيرة في رحلة عبورٍ، سلختُ فيها كل ما التصق بجسدي من ألبسةٍ، منعت روحيَ من الحركة، وبعد أن خلعتُ رداءً بعد رداء، ها أنا هنا في أول طريقي الجديد، أخطو أولى خطواتي.
في الغالب، لم يكن المقصود من المَثَل الشعبي الخبيث ملابس الأقمشة عندما قالوا «كُل على ذوقك والبس على ذوق الناس» بل هي رداءاتٌ كثيرة تُلبِسُكَ إياها العائلة، القبيلة، الطائفة، وحتى الزوجية!
وبينما تُخَط شخصية الإنسان في الخمس سنوات الأولى حسب فرويد، نرى أنَ القبيلة وبكل جدارة تكون بالفعل قد رسخت جميع طوابعها وألصقتها بإحكامٍ على هذه الشخصية، لنحتاج في المستقبل إلى خمسين سنةٍ والكثير من الجهد والمقاومة والمعرفة، إن توافرت لك الرغبة، حتى تتخلص منها.
بعيداً عن المعانيَ الأخرى الكثيرة للعبور، إلاَ أنني قمتُ بعملية عبوري الخاصة، تخلصت خلالها من وشاحٍ بعد آخر، من فكرةٍ بعد أخرى، من معتقدٍ تلو الآخر، إلى أن وصلت ها هنا بما اخترتُ فقط، وبعيداً عن أي قبعة، عن أي وصاية، وعن أي رقيبٍ سوى نفسي، بما تحمله من عقلٍ وقلب وروحٍ وجسد وضمير، نفسي التي أؤمن أنَ الله من زرعها فيّ وأنها نفحةٌ من روحه.
بداية رحلتي كانت في قتل جميع الأوهام وكسر جميع القوالب، فعندما نستطيع كسر أوهامنا نحصل على الحرية، التي تجعلنا قادرين على مواجهة جميع التحديات، وأولى هذه الأوهام هي مخاوفنا وانفعالاتنا.
نعم تخلصتُ من جميع أوهامي، وخالية تماماً وبشكلٍ صفري من الكراهية أو الحقد أو الخوف، فالحياة فيها الكثير من العمل، الحب، المعرفة، الموسيقى، الجبال والصحارى، وهي كافية لتَشغُل الوقت ولا تترك متسعاً للكره، تخلصتُ من أي خوف، فما الذي قد يُخيفني! حياةٌ سأراقصها طالما أنني أتنفس!
أم موتٌ محتم ربما يكون أقل وطأةً من ثقل الحياة!
تخلصتُ من أعذاري وانطلقت في اتجاه أهدافي والحياة التي أريد.
الآن أشعر أنني امتلك حياتي بعد أن عشت سنيناً لا أنكر أنها كانت تافهة، لم أعدُ كوني نسخةً من نسخٍ كثيرة حولنا ولم أستطع أن أحب نفسي، وغالباً ما كنت أشعر أنني في حالة فصامٍ بين ما أود أن أكون وبين ما يجبرني كل شيء حولي على القيام به، حقاً لم يكن يعجبني شيء في تلك الحياة.
أخطأتُ فيها كثيراً، ربما لم أكن قادرة على ضبط إيقاع الحياة، وتُهت في قناعات الآخرين وقوالب المجتمع، حتى استطعتُ الوقوف على أرضٍ صلبة، ولستُ أمشي الآن على بحيرة.
وجدتُ إجاباتي التي تقنعني على الأقل في وقتنا الحالي، وأرتضي التمعن طريقاً لهذه الإجابات، فلست قارئة نهمة، ولا أظن أنني سأكون، وأميز التمعن عن التفكير بعمقه الأكبر، وهو ما استنبط عندي بذور الإيمان بخالق، بعد أن رأيت عصفوراً يأكل أمامي فوق العشب، وهو موقفٌ يمكن أن أكتب فيه صفحاتٍ في فلسفة موقف، استمر لبضع ثوانٍ.
شعرتُ بأعراض المخاض بأكملها، قاومتني صحتي بشدة، وعاندني القدر، لكنني انتصرت ولم يستطع إثنائي، فقراريَ كان واضحاً وحاسماً، إما سأحيا الحياة التي أريد أو لن أحيا.
كان من حسن حظي أنني التقيت بمنارةٍ في وسط الطريق، أرشدتني إلى طريقي أنا، بحجارته وأشجاره وزهوره ومطباته، لكن هو طريقــي، صممته ليلبي إنسانيتي كيف أراها، شغفي وطموحي، سفري وترحالي وغجريتي، لذا هو طريقي.
جسدي يحملني وقلبي كذلك فلا شيء فيه غير الحب، لكن أعصابي هي ما يخونني أحياناً، أعصابي الفيزيولوجية، حيث باتت تصرخ بدلاً عن صوتي، وأعذرها أحياناً فهناك ما لا يُحتَمل ثقله.
ونعم أنا مولعة بهذا الشرق الحزين رغم أنه يضيق بنا، إلاَ أنني لن أضيق منه، وأتمنى أن أراه ضاحكاً مبتهجاً يوماً، أحبه بعيداً عن الانتماءات، فربما أنتمي لشجرة التوت التي قضيت الكثير من طفولتي عليها أكثر مما أنتمي لأي مكانٍ آخر، فأغلب الظن أنني وليدة الأفكار والأحداث، يعنيني الوقت ولا أقيم للمكان اعتباراً، وأفضل أن أكون ضيفةً في أي مكانٍ أُوجد فيه، كما هو وجودي في الحياة، وأعمل لأن يكون خفيفاً على كل من حولي.
الآن سأبدأ بتعلم ما أريد وما أميل إليه، سأتعلم على الأقل بعض الإيطالية كُرمَى لعيون بوتشيلي، وبعض الدلع من أجل مارلين مونرو وبعض الرقص للفراشةِ سامية جمال وبعض الإخراج لعنادِ حاتم علي وبعض التمثيل لعيون شون بين وبعض الغناء لصاحبة أجمل عينين زرقاوين دوريس داي، أو ربما لأنني أحب (الرُبّميات) ولدي متعةُ الانتظار لأرى ما ستؤول إليه.
بات الاحترام الشديدُ لحدودي أنا، وأكثره لحدود غيري، هو الذي يُسيِرني، في اختياراتي وفي مسافاتي في العلاقات، وموقفي في القضايا الاجتماعية التي لستُ جزءاً منها، أمَا في القضايا الإنسانية فأشعر دائماً بالانتماء، فأنا أولاً، الإنسان.
لا أعرف أين سأتجه، لكنني أعرف مشروعي في الحياة، أمتلك نفسي كاملة، والقليلُ من الفرح، والكثير الكثير من الصبر واللامتناهى من العزيمة، وعليه سأبدأ.
لا متطلبات عندي سوى حياةٌ تملؤني وأملؤها… بصمتيَ أولاً، وبحبي، وأكثره بعملي وأقله بكلماتي.
أكون كالموناليزا غالباً، وأحاربُ لأحفظ ابتسامتي من أي مسٍ، فهي نَفَسي ومُتَنَفَسَي، ولن أكون حنظلة ناجي العلي يوماً، ولن أدير ظهريَ لهذا العالم، فأنا فيه.
سألعب النرد كثيراً ولا أعبأ بالنتيجة، فدائماً ماكنت امرأة الخسارات الاختيارية.
لن أحتاج المئة وخمسة وسبعين سم لقبري، فلستُ كقامةِ محمود درويش، لكنني أحتاج أكثرَ من الخمسة وعشرين سم لزهورٍ تُحيطُ جسدي، علَها تكون دون رائحة، وبالمناسبة لم أحبَ فكرة حرق الجسد، ففيه من القسوة ما يصعبُ عليَ احتماله.
لا يعنيني جسدي، حتى في وقتي هذا، إلاَ بقدر ما يعطيني القدرةَ على التنقل والحركة، فأنا عاشقة للحركة، وغالباً ما يكون أميناً معي، يثقلني أحياناً لكنني أثقله أكثر.
ممتنة لكل حدثٍ حصل مهما كان سيئاً، لكل شخص آذاني أو تنمر عليّ أو قلل من شأني أو استهزأ، ولكل شخصٍ آمن بي، جميعهم صنعوني.
وها أنا مستعدة للبدء بحياتي الجديدة بتفاصيليَ أنا ومقاساتي، بعيداً عن أي مقاساتٍ فضفاضةٍ لا تليق بي.
رميتُ ما علي من مجوهراتٍ، لا لأنامَ في عيون أحد، بل وفقط لأنها تُثقِلُني وتمنع بعضَ مسام من جسدي من التنفس، أرتدي الساعة وأعرف أنني سأتخلصُ منها قريباً، وأحب الحلق وموسيقاه.
لا أحب الجنازات، وأتمنى أن أكون صاحبة النعش كي أنجوَ من البكاء.
تُثقلني لحظات التسوق والجلوس في المطاعم، كنت أفعلُها بثِقَل مجاملة الأحباء، لكنني لن أجامل بعد الآن.
لا يعنيني الماضي ولا المستقبل، تعنيني هذه اللحظة التي استنشق فيها الهواء، لأرسم فيها ما أستطيع من حياة.
ولم تعد لدي فكرة الأمل أو خيبته، فلستُ محكومةٌ بشيء، فالوقت لي، أخيطه بيدي.
وأنا الآن ممتلئة بكل أسباب الحياة وعليه أبدأ حياتيَ الجديدة.
كاتبة من سوريا