غريق في طبريا

2022-07-28

سهيل كيوان

كانت أول حادثة غرق ووفاة رأيتها، في وادي الشاغور الموسمي المجاور لقريتنا.

كان مجرى الوادي الصخري العميق، الذي يختفي تحت الأشجار الحرجية، ويظهر من جديد ثم يختفي ليبقى خريره، يغرينا بقضاء سحابة النهار في مجراه وحوله على صخوره، وبين أشجار البلّوط والسنديان والتين البرّي في مجراه.

في إحدى المرات وصلنا رأس المجرى كالعادة، هناك بركة محفورة في صخر أملس كالزجاج، نجلس حولها ونتقافز، وصل ولد من طلاب مدرستنا، فوراً خلع ملابسه وقفز إلى البركة عمودياً، رفع يديه مرتين أو ثلاثاً ثم اختفى!

مرّ وقت كافٍ لنستوعب بأن بقاءه تحت الماء ليس مقصوداً، ركض واحد منا نحو الشارع القريب لطلب النجدة، مرّت شاحنة لأحد أبناء القرية، هبط منها رجلان، أحدهما مدرِّسُنا للغة العربية، أخبرناهما بما حدث، حاولا الوقوف في البركة بحذر دون ترك التمسّك بحواف البركة، وكان واضحاً أن كليهما لا يجيدان السباحة، بحثا عنه بالأقدام فلم يعثرا على شيء رغم صغر مساحة البركة، وتوقعا أن المياه ربما سحبته إلى مجرى الوادي دون أن ننتبه.

في هذه الأثناء، بدأ الناس يهرعون من القرية وجوارها، وجاءت الشرطة والإطفائية التي لم يكن لديها ما تفعله.

أذكر أن الشرطي الذي أخذ شهادتنا كتب بأن الولد أراد إظهار بطولة أمام أولاد آخرين كانوا في المكان. مرّت ساعات واجتمع كل أهل القرية حول البركة الصغيرة دون أن يتمكنوا من العثور على محمد بن حسن العبد، وجاءت أسرته ووالدته، وكانت تناديه بأن يردّ عليها، والنسوة من حولها يطلبن منها الدعاء بالعثور عليه، فقد بات العثور على الجثة هو الهدف.

عندما أوشكت الشمس على المغيب، وصل عامل من مَقلع حجارة، خلع سرواله الخارجي وقفز في البركة، وفي لحظة ظهرت الجثة فوق رأسه، فتقدم الناس وأعانوه وأخرجوهما، والمهم أن هذا لم يكن صاحب خبرة سابقة في العوم.

كلما سمعت عن حادثة غرق، وأن البحث يجري عن غريق، أتذكر ذلك الفتى، ولم أعرف هل كانت جرأته تعتمد على تجربة سابقة في السِّباحة في المكان نفسه، أم أنه قفز لهفة من الحرّ إلى الماء البارد فاختطفه، أم أنّه أراد إظهار بطولة كما كتب الشرطي بالفعل!

عزّزت ذكرى الولد في ذاكرتي قصّة الفنان السّوري فاتح المُدرِّس التي قرأتها بعد سنوات في مجموعته عود النعنع، عن الطفلة عالو، التي غرقت في مجرى النهر وهي تحضر عود نعنع لوالدتها المريضة.

كثيرون تنتهي أعمارهم في مادة الحياة نفسها، المياه التي لا حياة بدونها لأي كائن! بعضها في دلو ماء أو في حوضٍ منزلي أو في بركة، أو على شاطئ البحر.

خلال أيام عيد الأضحى الأخير أنقذ رجلٌ ابنته على شاطئ البحر، ولكنه غرق هو بنفسه، يبدو لي أن هذا الرجل شعر بأن الموت أرحم له من أن يعيش ويترك طفلته تغرق.

من أجمل قصص ماركيز القصيرة، «أجمل رجل غريق في العالم»، وصفه لجثة قذفها البحر، وما علق بها من أحياء بحرية، وحديث النسوة من حولها، حيث تتحول حادثة الغرق إلى رؤية اجتماعية وفلسفية واسعة.

أكثرنا تعرّض مرة واحدة على الأقل في حياته إلى خطر الغرق، دخل في المياه أكثر من حدود معرفته في العوم، أو أنَّه فوجئ بعمق، أو بموجة عاتية خربطت حساباته، أو لانقباض مفاجئ في عضلة ساقه، استنفدت رصيده من الخبرة في العوم.

منذ خمسة أيام والجمهور العربي في داخل منطقة 48 منشغل في حادثة غرق شاب من أم الفحم في بحيرة طبريا، سقط الشاب المحامي في مهنته من قارب، عندما كان برفقة أصدقاء له في وسط البحيرة، وفوراً ابتلعته المياه، رغم أنه يجيد السباحة كما يقول شقيقه.

تتضاعف المأساة، في عدم العثور على الجثة.

رغم الجهود الكبيرة الشعبية والرسمية، رغم أن هناك ادعاء من قبل الأهالي بتقصير السُّلطات في البحث، لعدم استعمال التقنيات المتقدّمة التي يملكها الجيش، والتي تعتمد على الروبوتات المُبصِرة في الظلام.

لم تنم والدته منذ خمسة أيام، وكيف يمكن للأم أن تغفو بينما فلذة كبدها مجهول الإقامة تحت الماء، كان الله في عونها وعون الأسرة.

منذ بداية هذا الموسم في نيسان/إبريل إلى اليوم، قضى تسعة عشر شخصاً نحبهم غرقاً، إضافة إلى حوالي 130 حالة غرق جرى إسعافها، ويشكل العرب في الداخل كالعادة، نسبة عالية تصل إلى نصف عدد الغرقى على شواطئ وبرك ومنتجعات البلاد، ونتساءل دائماً، لماذا العرب أكثر عرضة للغرق من غيرهم!

بكل بساطة، إنّ أكثرية أبناء المجتمع العربي هم من أبناء القرى والمدن البعيدة عن البحر، في السُّهول أو الجبال، أي أن أكثرنا ليس من بيئة بحرية، ونادراً ما يكون الغريق من سكان الساحل!

ثم إن تعليم السباحة منذ الصغر لم يتحوّل بعد إلى ضرورة مفروغ منها، فكثيرون يكبرون دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من الخبرة في العوم، وفي ما تخبّئه الشواطئ من مفاجآت للمستجمّين، وخصوصاً بحيرة طبريا ذات التيارات المائية المتقلّبة الخطِرة.

يجب أن نعترف بأن لدى جزء كبير منا خللاً ما في تقدير قيمة الحياة نفسها، ويبدو هذا لأسباب ثقافية، رغم التحذير القرآني «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

معظم من يستجمون في أماكن تحظر السباحة فيها هم من العرب، حتى في الشواطئ التي يوجد فيها محطة مراقبة ومنقذ، وهي في أكثرها مجّانية ومتاحة للجميع، نجد كثيرين من أبناء الأسر العربية، ينتحون جانباً بعيداً، حيث لا توجد مراقبة ولا إنقاذ، لأن تدخين الأرجيلة أو الشواء من الأمور الممنوعة في الشواطئ المرخّصة، إضافة إلى تفضيل البعض الابتعاد عن الازدحام والاختلاط بالآخرين، وهذا يتعلق بثقافة اللباس والانكشاف على شاطئ البحر.

من ناحية أخرى، لا نستطيع تجاهل طيبة ونخوة الناس في مجتمعنا، فهم من يتطوّعون بالمئات من النقب حتى الجليل للبحث عن شاب مفقود في طبريا أو غيرها، وهم أنفسهم الذين يهبّون لنجدة أسرة تضرّر مسكنها نتيجة فيضان أو حريق أو لأي سبب كان، فتجد البنّاء والدّهان والنجار والحدّاد وأصحاب المهن المختلفة، قد تطوّعوا ليعيدوا البيت المتضرِّر إلى أفضل مما كان، إلا أن الأرواح لا يمكن استعادتها، إضافة إلى الآلام التي ترافق ذوي الضحايا طيلة ما بقي لهم من أعمارهم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي