الناجي الأخير

2022-07-06

محمد هادي

إنها الحرب.. وليس من نتائجها الدمار والموت فقط، بل اختلال أو انقلاب الموازين وتغيُّر المعايير.

جُنِّدَ حامد، مدلّلُ الأب والأم، مع كلّ أبناء السنة التي وُلد فيها، والتي قبلها وما بعدها. ولأنّه لم ينهِ دراسته ولم يكن بالإمكان الاستفادة من اختصاص معيّن له، فقد رُميَ به في الخطوط الأمامية كمقاتل مشاة، بعد فترة تدريب وجيزة.

لم يحتمل الخندق والماء، فالآلام والمخاطر تُصيب كلّ حواسّه، أصوات القنابل والقصف تصمّ آذانه، والطعام البائس يؤذي ذائقته، والنوم والعيش والتنفّس وكلّ شيء في هذا الجحر يقضّ العيش، كم من مرّةٍ في خلوته بكى كطفلٍ صغير.

بعد أشهر من هذا الحال، توجّه إلى خاله، وهو مسؤول في منطقته يتبع الحزب الحاكم، توسَّل إليه أن يفعل أيّ شيء لأجله، كلَّ ما بوسعه، قال له بأنّه يفكّر في الانتحار ولا يمكنه البقاء حيث هو على الجبهة، وهكذا كان. أخبره الخال مستبشراً ّأنه وجد له موقعاً في المستشفى العسكري خلف الخطوط الأمامية، وهذا الأمر كلّفهُ الكثير من الخدمات لمسؤولين، "سيحسدك رفاقك"، هكذا أخبره خالُه.

عُيِّن حامد مباشرةً حارسَ ثلّاجة الموتى. هذه الوظيفة هدية السماء له في تلك الحرب الطاحنة. باشَر وظيفته رسمياً وتسلَّم سجلّ الوارد والصادر من الجثث، دفتر كبير مثل سجلّات الحسابات، غلافه الجلدي الأسود موشّح بشعار الجمهورية ورقم الوحدة العسكرية والقسم... إلخ، وكلُّ صفحة تنقسم حسب جدول طولي: اسم المتوفّى، تاريخ الوفاة، تاريخ الاستلام، سبب الوفاة، المسلِّم، المستلِم... إلخ، وعليه أن يذيّل بتوقيعه.

سأل حامد سلَفَه عن سبب نقله، أخبره أنَّ وشاية أودت به إلى الجبهة. تسلَّم المكتبَ الحقير مع الكرسي والدفتر حسب الأصول المعتمدة. رغم أنّه مستشفى، إلَّا أنَّ حياة العسكر وحالة الحرب هي المسيطرة على أرجاء المكان.

هكذا هرب من الموت فتلاقيا، وأصبح رفيقه الملازم له

تقيّأ مراراً مع استلام جثث وأشلاء، شاهد بأمِّ عينه القتل والموت بأشكال متعدّدة، الموت بلغم أرضي أو انفجار أو شظايا أو طلق عن قريب وعن بعيد، رؤوس متفلّعة برصاص قنّاص، إعدامات ميدانية (وعرفها كون الأيدي موثوقة). هكذا هرب من الموت فتلاقيا، وأصبح رفيقه الملازم له، بل أصبح الموت سبب عدم موته هناك.

عمل بنصيحة الخال وتحلّى بالصبر، بدأ يتقبّل رائحة الموت، إلَّا أنّ أهل الميت من الأحياء أصبحوا هاجسه اليومي، فلحظة تسليم جثّة معرّفة إلى ذويه (لأنّ هنالك الكثير من الجثث غير معرّفة ولا أحد يستلمها، فتُدفن جماعياً كأشخاص مجهولين) ليست بالمهمّة الهيّنة. هنالك من يكتفي منهم بالبكاء المرير، والبعض يعمد إلى تكسير أشياء أو يشقّ ثوبه، بينما الأكثرية يبكون بصمت خوفاً من الوشاة بأنهم اعترضوا على موت ابنهم في حرب عمياء، وتلك بنظر الحاكم جريمة يحاسب عليها قانونه.

وأمام كلّ هؤلاء المفجوعين بأبنائهم وذويهم، لم يعرف بدايةً كيف يتصرّف معهم، وأكثر ما أثّر فيه الأمّهات الثكالى، فلنحيبهنّ شجىً خاص يفطّر أقسى القلوب. واهتدى أخيراً إلى أنه يمكن أن يواسيهم بقليل من "الكلينكس"، ولأنّ المستشفى لا يصرف له بدل هذه المادة، صار يشتريها من راتبه. ومع ازدياد أعداد القتلى صار يحتاج إلى علب أكثر، وكأنّ الحرب قد جُنّت، ففي فترةٍ ما اشترى كيساً كبيراً يحتوي دزّينة من علب "الكلينكس" بسعر الجملة من محلّ اهتدى إليه يوزّع للمتاجر الصغيرة.

أصبح يعرف نبض الحرب من خلال استهلاكه للمناشف الورقية التي تبتلّ بدموع فاقدي أحبّائهم، والمقتولة ذكرياتهم، وأكثر ما يفعله حامد، يواسيهم بتقديم المحارم لهم، ويسمع دائماً كلمة "رحم الله والديك". وكم من باكٍ بلّل كتفَ حامد بدموع يستغرب هول غزارتها.

لم تعد الثلّاجة ترعبه كما في الأيام الأولى. مع مرور الأيام أصبحت تميمة حظّه، وهو مدينٌ لها، فطالما هو جنبها سيكون بمأمن من هذه الحرب التي ترسل له جثثاً كسيل جارف.

في الصيف، وحيث لم تعد المروحة في غرفته تكفي ليتمكّن من استبقاء أنفاسه، أضحى يفتح باباً من أبواب الثلاجة التي تكون فارغةً أو مملوءة بإنسانٍ فقد روحه، فالأمر سيّان بالنسبة إليه. المهم أن يتنفّس هواءً بارداً يخفّف قيظ الصيف، وإن كان ممزوجاً برائحة الدم التي ألِفها ولم تعد تضايقه، بل إنّه يخزّن قِدر طعامه الذي تطبخه له أمّه، في نفس الثلاجة، دون أن يسبّب له ذلك أيّ شعور بالقرف.

لا يعلم هو نفسه إذا كان يومُ استلام جثّة سلفه، أمين الثلّاجة السابق، حرّك فيه مشاعر مختلفة، من جهة شعوره بالمسؤولية لأنّه أخذ مكانه، لكنه متأكّد أنَّ سبب نقل الرجل جاء بوشاية من شخص نافذ يكرهه، وشعر مرّةً أنَّ هذا الرجل تربطه به علاقة خاصة، واستذكر كلماته وتعليماته. لكنه قرّر عمل شيء لأجل روحه، وهو شراء كيس كبير من عُلب "الكلينكس"، وعقد النيّة أنها ثواب لروح زميله السابق.

أصبح يعرف نبض الحرب من خلال استهلاكه للمحارم الورقية

كان يذهب إلى محلّ الجملة الذي يبيع مواد "الورقيات" بشكل دوري، كجزء مهمّ من وقت إجازته، بل كطقس ضروري. إنه يشعر بالمسؤولية تجاه زوّاره من الموتى وذويهم من الأحياء، ولذلك أصبحت له علاقة خاصّة بالتاجر الذي تعاطف معه، بعد أن سمع منه قصصاً تشيب لها رؤوس الصغار. تطوّرَت مع الأيام العلاقة مع هذا التاجر، لأنّ حامد أصبح يشتري كميات كبيرة منه، يأخذ إلى المستشفى حاجته حسب الثلاجة، والباقي أصبح يوزّعه على محلّات في منطقته، يسلّم لهم البضاعة خلال إجازته السريعة، ويعود ليستلم منهم الحسابات مع الأرباح، ويسلّمهم كمّيات جديدة، وهكذا دواليك.

يذكر حامد جيّداً يوم تعطّلَت الثلّاجة ألمانية المنشأ، وهي عبارة عن جوارير كبيرة. تأخّر عمّال الصيانة في المجيء فتصرف، ولأنّ العطل كهربائي، فقد جاء بمصلّح على حسابه الخاص. كما يستذكر طوال أشهر عدّة كيف أنه في معركة تحرير إحدى المدن الكبيرة، اضطّر لأن يصفّ أحياناً جثّتين جنباً الى جنب لكثرتها، حيث اضطر إلى فرز ذوي البنية الصغيرة من الممتلئين، لجمع صغار البنية مع بعض في جارور واحد.

وفي ذروة الحرب وهو منهمك في العَمَلين، الثلاجة وأمواتها، وبيع "الكلينكس" وتوزيعه، ولأن هنالك أشخاصاً على نقيض العسكر، يلبسون أطقماً ويتعطّرون ويسافرون لمفاوضة الأعداء أنفسهم أحياناً، كلّ هذا يدور، والمقاتل عليه أن يلقم سلاحه، ويبقى متأهّباً، هكذا فجأةً اتّفق الطرفان على "وقف إطلاق النار" وتبادُل الأسرى وجثث العسكر، في لحظة عاقلة، احتاجها البلدان منذ سنوات، كانت لتوفر نزيف دم وإزهاق أرواح، خلّفت أرامل وثكالى وأيتاماً توقّف عندهم زمن الحب، وتحوّل للفقد.

جرى تسريح معظم الجنود ليتحوّلوا إلى عاطلين عن العمل بعد أن أنهكت الحرب البلاد والعباد، إلَّا أنَّ حامد استمر في عمله وطوّره ليستعين بخاله مرّةً أُخرى، ويشتري ماكينة متوسّطة الحجم، تأتي برولات ضخمة يسميها "جامب رول"، وتحوّلها الماكينة إلى شرائح صغيرة مطوية بإتقان، ثمَّ في ماكينة أخرى تُوضَّب في علب جميلة، مكتوب عليها "محارم حامد الورقية".

كاتب من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي