عميحاي ومحمود درويش: أيّ نصيب في القدس؟

2022-07-04

صبحي حديدي

سيدرا ديكوفن إزراحي أكاديمية أمريكية/ إسرائيلية وأستاذة الأدب المقارن في الجامعة العبرية، القدس المحتلة، تشتغل على النصوص الأدبية، الشعر والرواية بصفة خاصة، من زاوية الصلات مع الأصول التوراتية من جهة أولى؛ ومع السياسة، بالمعاني الأعرض التي يمكن أن تُدرج العناصر الثقافية والأركيولوجية والأنثروبولوجية من جهة ثانية. فإذا وُجدت تلك الصلات، على أيّ نحو ظاهر أو مبطّن، فالأمر عندها خير من حيث المبدأ والظواهر الناجمة عنه جديرة بالبحث والتحليل والتمحيص؛ وأمّا إذا عزّت، بمعنى احتجابها أو عسر إظهارها، فإنّ إزراحي لا تتردد عندئذ في استنباطها حتى من باب القسر التعسفي والافتراض العائم. عملها الأوّل في هذا المضمار، كان «بالكلمات وحدها: الهولوكوست في الأدب»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 1980 عن منشورات جامعة شيكاغو، ولعله الأشهر والأكثر اقتباساً من زاوية هذه المقاربة، الإشكالية كما يصحّ القول، للنصوص الأدبية التي تتناول المحرقة.

كتابها الجديد، الصادر مؤخراً بالإنكليزية عن دار النشر إياها، يحمل عنوان «مجاز القدس: السياسة والشعريات في المركز المقدّس»، ويقع في 352 صفحة تتوزع على مدخل ومقدمة وسبعة فصول؛ وغرضه المعلَن، باختصار لعله الأقرب إلى الإنصاف، هو كيفية لجوء الكتّاب العبريين (الإسرائيليين، مع ذلك) إلى المخيّلة والمجاز للتعبير عن حنينهم/ إنتمائهم إلى مدينة القدس، من مواقع المنفى والنأي والشتات. وأبرز الأمثلة الروائي الإسرائيلي الأوكراني الأصل شموئيل يوسف عجنون (1888-1970)، الحائز على نوبل الآداب سنة 1966 مناصفة مع الكاتبة السويدية نيلي زاكس؛ والشاعر الإسرائيلي الألماني الأصل يهودا عميحاي (1924-2000)، الأكثر قراءة وشعبية في دولة الاحتلال. وإذا كانت إزراحي تتكيء على النصوص التوراتية في غالبية خلاصات الجزء الاوّل من كتابها، ويشغل أكثر من 80 صفحة، ولا يعيقها الابتداء من «نشيد الأنشاد» عن الانتهاء بما تسميه «الدليل الميموني إلى المخيّلة الشعرية»؛ فإنّ مرجعياتها في القسمَين الثاني والثالث لا تبدأ من فلاسفة فرنسيين أمثال ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا، ولا تنتهي عند… إسحق رابين وأرييل شارون وبنيامين نتنياهو!

لافت، إلى هذا، أنها لا تذكر من أدباء فلسطين سوى محمود درويش وأنطون شماس، ضمن هامش يتيم لا يتجاوز حفنة كلمات وعلى نحو يتصل حصرياً بازدواجية اللغة بين العربية والعبرية؛ كما أنها، في غمرة العشرات من المراجع المختلفة حول التوراة والأدب والثقافة والكثير من النُظُم الدراسية، لا تأتي البتة على ذكر إدوارد سعيد من أية زاوية ممكنة، سواء اتصلت بالقضية الفلسطينية أو مفهوم المنفى أو نقد الاستشراق. والأحرى هنا التوضيح بأنها لا تقتبس أيّ عمل لأيّ كاتب عربي، ما عدا كتاب كنعان مكية «الصخرة: حكاية قدس القرن السابع عشر»، 2001، وهو رواية وليس عملاً بحثياً؛ لأسباب لا تخفى، لعلّ أوضحها إصرار مكية على تسمية المدينة بـ»بيت المقدس» من باب النسبة إلى العبرية beit ha-mikdash. هذا التفصيل يتجاوز الخلل المنهجي الخطير، خاصة وأنّ منحى الكتاب يعتمد السياسة أسوة بالمخيّلة ومن غير المعقول انتفاء حصّة الفلسطينيين من العنصرين معاً، على أقلّ تقدير؛ وينتهي، استطراداً، إلى ما يصحّ وصفه بالإقصاء المنهجي عن سابق قصد وتصميم، حيث ينطوي سلوك أكاديمي مثل هذا على تمييز فاضح وهابط وعنصري أيضاً.

لا حصّة لأمثال محمود درويش في هذه «القدس» التي تشيدها إزراحي اتكاءً على طرائق انتقائية واصطفائية وإرغامية وجبرية، ولا تبرر هذا النهج ذريعة تبسيطية تقول إنّ الكاتبة معنية بالكتّاب العبريين فقط، كما قد يساجل البعض؛ فالسعي إلى إدراج السياسة في قلب المخيال عند مناقشة مسائل القدس المعقدة يُلزم بأخذ العنصر الفلسطيني في الاعتبار، وليس البتة من زاوية رفع العتب! المؤلفة تعترف بأنها كانت تستكمل الكتاب على وقع «الاضطرابات» في حيّ الشيخ جرّاح والحرب التي شنتها دولة الاحتلال على غزّة لاحقاً، فكيف غُيّب العامل الفلسطيني والحال هذه؟ وكيف، في المخيال الفلسطيني الحديث والمعاصر عن القدس، يغيب أمثال محمود درويش وإدوارد سعيد؟

وفي قصيدته «سيّاح» يروي عميحاي الحكاية التالية: «ذات يوم جلست أستريح على الدرج المحاذي لبوّابة برج داود، ووضعت جانباً سلّتَيّ الثقيلتين. وكانت مجموعة من السيّاح تتحلق حول دليلها، فوجدت أنني أصبحت نقطة علاّم بالنسبة إلى ذلك الدليل: «أترون ذلك الرجل الذي يتوسط سلّتين؟ أعلى رأسه، وإلى اليمين قليلاً، يوجد قوس من العهد الروماني. إلى اليمين من رأسه تماماً». وهتف السيّاح بضيق: «لكنه يتحرك كثيراً». وقلت في نفسي: لن يأتي الخلاص إلاّ حين يقول الدليل: «أترون ذلك القوس من العهد الروماني؟ ليس القوس مهماً، لكن إلى الأسفل واليسار قليلاً يجلس رجل اشترى لأسرته سلّتين من الفواكه والخضار».

وكان الصحافي الأمريكي غلين فرانكل قد اختار هذا النصّ لتصدير كتابه «مابعد الأرض الموعودة: اليهود والعرب على الطريق الوعرة صوب إسرائيل الجديدة»، الذي صدر سنة 1995 وأثار نقاشات مشهودة، غابت بدورها عن «سياسة» إزراحي في كتابها؛ مثلما غابت معضلة ذلك اليهودي الشاعر، القابع أسفل العلامة التاريخية، ينوء بأثقال الحياة اليومية، ولا يخدم دولة الاحتلال إلاّ على هيئة نقطة علاّم توشّر – أمام فوج سياحي – على قوس روماني!







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي