أعتذر عن عدم الحضور

2022-07-02

مصعب أبو توهة

يتسلّل صوتُ عجلات شاحنة صغيرة عبر النافذة، بينما يخترقُ جدرانَ غرفتي صوتُ محرّكٍ يدفع الماء من خزّان تلك الشاحنة. لوهلةٍ يطمس صوتُ عقارب ساعة الحائط رأسَه في الضوضاء العارمة. "يكفي. أوقِفِ المحرّك، خزّان الماء سيمتلئ قريباً". يصرخ أخي الصغير عن سطح المنزل.

تعود دقّاتُ الساعة مجدّداً وكأنّها تنقرُ بِعصاها على كلّ شيء في الغرفة، عصا لا تُيبِّسها شمسُ الأيّام الحارقة، كيف لا وهي الوقتُ بعينه؟

أمسكُ الكتاب بيدٍ وبالأُخرى كوبَ القهوة الذي بدأ يبرد. أحاول قدر المستطاع القراءة جهراً حتى أغطّي ولو قليلاً صوتَ الضجيج في الخارج. اليوم مشرقٌ على غير العادة، وهذه فرصة لا تعوّض لدى الأطفال، فقد كان الجوُّ ماطراً لثلاثة أيامٍ منذ بداية الإجازة القصيرة بين الفصلين، ما منعهم من اللعب في الخارج. حتى أثناء مكوثهم في البيت، يمكن سماع الأطفال يلهون ويقفزون في بيوتهم الملاصقة لبيتنا في المخيّم، بينما الآباء والأمّهات يصرخون، يستجدُون أطفالهم كي يلعبوا بهدوء أو يناموا قليلاً في النهار.

أقف لأغلقَ النافذة بشكل كامل، عادةً ما أدع جزءاً منها مفتوحاً حتّى في أشد الأيام برودة. لا أعلم، ربّما لأنّ عصفوراً قد يُضْطرُّ إلى الفرار من المطر في الخارج حيث لا يمكِّنه جناحاه المُبلّلان من الطيران أبعد. ربما غرفتي ستكون أقرب ملجأ له خلال هذا الحدث الطارئ عليه... تبدأ الشمس بالنزول البطيء جهة البحر.

أنظر إلى نفسي في المرآة. لقد طال شعر رأسي، وذقني يحتاج بعض التشذيب. ربما يجب أن أذهب إلى الحلّاق غداً، إنْ لم أفعل مساءً. يجب أن أذهب الآن إلى المقهى للقاء أصدقائي القدامى أيام الجامعة. بمبادرة من أحد الزملاء، اتَّفق الرفاق على الاجتماع في المقهى القريب، خاصّة بعد الحرب الأخيرة. كنت متشوّقاً جدّاً لمعرفة مَن مِن الأصدقاء حصل على فرصة عمل، مَن منهم تزوج ومَن عنده أطفال، مَن منهم سافر ورجع.

فجأة يخرج من خلف الستارة شخصٌ له نفْسُ طولي ونحافتي

أتناول المشّاطة البرتقالية جانب المرآة، أسرّح شعري يميناً، لكنّ بعض الشعرات تبقى مائلةً إلى جهة اليسار. أسرّحه يساراً، فتُصرُّ بعضُ الشعرات أن تنحني جهة اليمين. وما بين اليمين واليسار، يمرُّ الوقت.

أفتح الدُّرج الأوّل، أستخرج قبعة صوفية تحلُّ النزاع الأزلي بين اليمين واليسار. أضعها على رأسي. أتجه إلى الخزانة وأختار قميصاً ومعطفاً لونهما يناسب لون القبعة. أرتدي كلَّ شيء بسرعة، أنتبه إلى الألوان وتناسقها مرّة أخرى قبل أن أرتدي البنطال. ينقطع التيار الكهربائي فجأة، يهبط الظلام كأنه غيمة من الملابس السوداء، ترتديها الغرفة بغير تكلّف. أبحث عن هاتفي. كنت قد تركته على طاولة الطعام عندما جهّزت القهوة، لم يتبقّ من الوقت الكثير. أضع الحذاء بسرعة، ليس هناك وقتٌ لإزالة ما علق عليه من أثر الغبار أو الطين الذي يغطّي شارعنا الرملي. هناك مَن يُطلق على شارعنا وقت المطر "شارع النوتيلا".

أخيراً قبل أن أخرج، أتناول اللّفاع عن علاقة الملابس قرب الباب. أرتديه حول عنقي. أفتح الباب، لكن، أسمع صوت طقطقة في الغرفة. ليس هناك أحد في البيت سواي. ربما يكون هناك عصفور داخل الغرفة؟ هل حدث وأن أغلقت النافذة؟ سأعود وأفتح النافذة إذا حدث ذلك، لربّما يريد العصفور أن يغادر قريباً عندما يتوقّف المطر. لكنني أسمع صوت إغلاق باب الخزانة وصوت قدمين تسيران ببطءٍ على حصيرة الغرفة، صوتهما وهما تصطدمان بكيس رقائق البطاطس الذي نسيت أن أرميه في سلّة المُهملات.

أقترب من الغرفة، قَدمٌ تزحف للأمام وأُخرى تُرجعني للوراء، أقفز بقدميَّ الاثنتين. أشعر أننّي مرّةً معلقٌ في الهواء كخيط عنكبوت ومرّة متيبِّسٌ بالأرض كسيقان البامبو. أُضيءُ مصباح هاتفي، يعود الهدوء إلى الغرفة. يؤكّد خوفيَ وجودُ كيس رقائق البطاطس محاذاة الكرسي البلاستيكي. وليس بجانب السرير حيث كان، الذي يبعد مسافة مترين عن الكرسي. أحرّك الضوءَ في نواحي الغرفة، لكن لا يوجد أحد. ألاحظ أيضاً أنّ هناك علّاقة ملابس موضوعة على السرير. لا أذكر أنني تركت علّاقة ملابسٍ على السرير قبل أن أخرج. أقف قبالة المرآة، لكنّها لا تعكس صورتي.

فجأة يخرج من خلف الستارة شخصٌ، لا أميِّزه جيداً، له نفْسُ طولي ونحافتي. يلبس قميصاً ومعطفاً وقبّعةً، لكنْ لا يلفُّ عنقَه لفاعٌ. ملابسه مسلوبةُ الألوان، عدا أنها تتراوح ما بين الأسود الغامق والرمادي، كمثل صورة جدي قبل ستّين سنة. ترتعدُ فرائصي، يبردُ جسدي رغم كلّ ما أرتديه من ملابس. يرنّ هاتفي، يبدو أنني سأتأخّر عن موعدي مع الأصدقاء. أُرسل رسالةً آليةً: "أعتذر، لا يمكنني الحديث الآن!".

لا ينطق لساني مُطلقاً وتتجمّد يداي. وبصوت آلي، ينطق ذلك الشبح: "لماذا تركتَني معلّقاً وحدي في المرآة بعد أن غادرتَ الغرفة؟ كان يجب أن تعطيني بعض الملابس على الأقلّ خلال هذا البرد".

لم يدع لي مجالاً كي أشرح له ما حدث، وإنّما رطم جسدُه الهوائيّ بالمرآة فهشّمها.

يرنّ هاتفي ثانية، فأبعث برسالةٍ أُخرى، بينما تكسو الشاشةَ حُبيباتُ عَرق دافئة من وجهي: "أعتذر عن عدم الحضور. حصل معي ظرفٌ طارئ".

كان عليّ ليلتها أن أُلملم ما تشظّى من جسدي.

شاعر وكاتب من فلسطين







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي