الولد العالق في التاريخ

2022-06-24

حسن أكرم

كنتُ، ولسنواتٍ طِوال، أُمنّي النفس بالعمل في صناعة الأفلام. أحبُّ السينما كثيراً، وأعتقد أن حتميّتي ستنتهي بي وأنا أعمل في صناعة السينما. لذا، ومن دون تفكير، قبلتُ فرصة العمل مُساعدَ مُصوّر في أحد الأفلام القصيرة. ورغم أن المسمّى الوظيفي كان جيّداً إلى حدّ ما، لكنّي في الحقيقة لم أكن أفعل شيئاً سوى إمساك قميص المُصوِّر، حيث كنت أركض وراءه ورأسي إلى الأسفل أبحث عن الحفرة القادمة لنتجاوزها معاً.

كنّا ننوي تصوير مشهد للقمر وهو بدر، وتطلّب منّا ذلك، أن ننتظر أيّاماً كثيرة حتى نتمكّن من الأمر.

وفي اليوم المنشود، عند العصر، قرّرنا أن نجمع العدّة ونذهب خارج المدينة لنلاحِق القمر، على أن نصل عند المغرب هناك، لنحصلَ على صورة أكثر دقّةً لكوكبنا البعيد.

تأخّرنا في الطريق، وما إن وصلنا حتى ابتلعنا الغروب، وصار المصوِّر يهرول بعد أن ترك باب السيارة مفتوحاً نحو منطقة خالية تتوسّط غابة من الحشائش. وعندما وصلنا هناك - وكنتُ أفعل ما هو معتاد بأن أركض خلفه ماسكاً بقميصه وأقيّم وضع الأرض - وبينما كُنّا نهرول تفادينا الكثير من الحشائش الضارَّة والحُفر المعرقِلة، حتّى صرنا نتجاوز بسرعة نتوءات معدنية كثيرة، وما إن ركّزتُ فيها حتى صرخت، توقّف المصوّر هناك بعد أن جفل من صراخي. أخبرتُه بما نحن عليه، فتحوّل من مُخرج حاذق وخطير إلى طفلٍ جبان لا يعرف كيف يقف على رجليه.

كنّا قد قطعنا عشرين متراً داخل حقل ألغام، دون أن نُصاب بأذى. لكنّ هذا لا يكفي لنبتهل ونشكر الله على لطفه، فما زلنا عالقين هنا في هذا المكان المُوحش، والليل قد خيّم على المكان كأنّه يُغطّي وجودنا بردائه السميك. لم نكن نعلم حجم المسافة الآمنة التي تحيطنا، ولم نكن نقدر على المجازفة في اختيار الجلوس المريح. لقد تسمّرنا هناك كأنّنا أشجار بلّوط.

هذا ما أوصلنا إليه الركضُ وراء القمر، أن نقع في حلبة للألغام تقع بين العراق وإيران.

حينها، رُحتُ أستعيد حكايات أبي عن تلك الحرب، التي انتهت قبل عقدين من الآن.

تحدّث أبي كثيراً عن المُعجزات التي انتشلَته ورفاقه من الموت وعن أحداث بطولية قاموا بها آنذاك، وأذكرُ أنّ آخر ما تحدّث عنه هو مشاركته في زرع الألغام بعد انسحاب فرقتهِ العسكرية من الحدود.

أبي الذي نجا من تلك الحرب، ترك لي لغماً لأموت فيه. يا لغرابة أن أموت بهذه الطريقة... كثيراً ما تخيّلتُ لنفسي نهايات عديدة، منها أن أموت بحادث سَير، أو أن أموت غرقاً، أو رمياً بالرصاص، ولم أفكّر ولو لمرّة واحدة أنّ من المُمكن أن أموت مقطّع الأشلاء في حقل قديم للألغام.

لم يكفّ صاحبي عن البكاء بصوت مرتفع والتوسّل إلى الله، ولم يترُك لي دقيقة صمتٍ لأفكّر بطريقة للخروج. لم يكن في حيازتنا هواتف، بعد أن تركناها في السيّارة، يوم ركضنا متلهِّفين لنلتقطَ صورة واضحة لبدر سخيف. كان الأجدر بنا أن نصوّره من أعلى سطح البيت، أو أن نسرقه من الإنترنت، لكنّ هذا ما حدث، شغفُنا بالسينما أوصلنا إلى حتفنا. رنّ هاتفي كثيراً، تخيّلتُ وجه أُمّي التي لا تملك أيَّ فكرة عن مصير ولدها العالق في التاريخ، الوقت عند أُمّي يشير إلى مساء في عام 2018 بينما الوقت عندي يشير إلى عام 1987، كنّا عالقَين في محنة تاريخية.

أبي الذي نجا من تلك الحرب ترك لي لغماً لأموت فيه

في الليل الحالك، كنّا مثل جنديَّين عالقَين في الصحراء، في حرب لا نعرف سببها، هل كانت من أجل الديمقراطية؟ أم من أجل الهوية والعَلم؟

لن تجد الجواب عند أيٍّ من المليون شخص الذين ماتوا هناك، ولن تجده عند القادة أيضاً.

عند الثانية بعد منتصف الليل عثر علينا رجل أميركي، تحدّث إلينا مستفسراً عن سرّ وجودنا هناك، ثم من بعيد، بعد أن اتّضح له أمرنا، سرق السيّارة وهرب. وعند الثالثة توافد علينا أشخاص كُثر، من لُغات وسحنات مختلفة، كلُّ واحد منهم يسألنا بلغته، ولم نكن نعرف ما يكفي لنجيبهم، حتى تركونا هناك.

ولم يُسعفنا سوى راعي غنم عراقي يعرف لغتنا ويهمّه أمرُنا. خطا في اتّجاهنا كأنّه يتخطّى طريقاً من الزهور، دون أن يرفَّ له جفنٌ قادنا إلى برّ الأمان، حينها تأكَّدتُ أنّني لن أموت مثل تاركوفسكي وفاتَني ذلك الموت العظيم.

هامش: مات المخرج الروسي أندري تاركوفسكي (1932 - 1986) في موقع تصوير فيلمه الأخير بعد تعرُّضه للإشعاع، على الرغم من علمه بخطر الإشعاع هناك. مات مع بعض زملائه من أجل السينما.

كاتب من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي