مصارعة الشعر في سيدي بو سعيد

2022-06-20

صبحي حديدي

أُقيمت مؤخراً، في مدينة سيدي بو سعيد التونسية الأخاذة، الدورة الثامنة لمهرجان الشعر الدولي؛ التي أشرف على تنظيمها الصديق الشاعر التونسي معزّ ماجد، وشاركت فيها كوكبة نوعية من الشاعرات والشعراء قدموا من العالم العربي وأوروبا وأمريكا اللاتينية، فضلاً عن تونس بالطبع. وقد دُعيت إلى المهرجان للمشاركة في ندوة نقدية حول ترجمة الشعر بين المنشود والعوائق، وشاركت بورقة/ مداخلة بعنوان «ترجمة الشعر: مصارعة النزر اليسير»؛ ابتدأتها بالتشديد على أنّ الترجمة رافقت الوعي البشري، الإيمائي واللفظي والكتابي، على مرّ العصور؛ لأنّ البشر، بادئ ذي بدء، يتكلمون لغات مختلفة، وحقيقة وجود عشرات الآلاف من اللغات، التي استُخدمت أو يتواصل استخدامها على سطح كوكبنا الصغير، إنما هي تعبير بليغ عن الغنى المذهل للذات الإنسانية. ولهذا فإنّ الترجمة ضرورة ما دامت اللغة أبعد بكثير من مجرد اتصال بين متكلّمَيْن، وهي ضرورة مفتوحة لا تنتقص من أهميتها هذه الدرجة أو تلك من «الخيانة»، الدلالية أو اللسانية أو الأسلوبية.

وبين حقول الترجمة عموماً، وتلك الأدبية منها خصوصاً، تبقى ترجمة الشعر هي الأكثر تعقيداً بالمقارنة مع الرواية أو المسرح أو القصة القصيرة أو المقالة النقدية؛ نظراً، في المقام الأوّل، لطبيعة الشعر ذاته ومكوّناته الفنية العديدة والعلاقات العضوية بين المحتوى والشكل في القصيدة، فضلاً عن اللغة الشعرية والمجاز والإيقاع والانزياحات الدلالية والسمات الإيحائية العالية للمفردة الواحدة داخل الجملة، وللجملة ذاتها ضمن معطيات تركيبية وأسلوبية أوسع.

ولعلّ الغالبية الساحقة من المشتغلين بترجمة الشعر من لغات أخرى إلى العربية، أو العكس، لا يفلحون إلا نادراً في تفادي الوقوع أسرى نمطَين أقصييَن من الحدود القاطعة المسبقة؛ الأوّل قال به الجاحظ في عبارته الشهيرة «الشعر لا يُستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوّل تقطّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه»؛ والثاني اشتهر به الشاعر الأمريكي روبرت فروست، من أنّ «الشعر هو ذاك الذي يضيع في الترجمة». صحيح أنّ ترجمة الشعر تواصلت قبل قرون سبقت الجاحظ وفروست، وسوف تتواصل بعد قرون تعقبهما، لأنّ الترجمة عموماً، وربما ترجمة الشعر خصوصاَ، هي «دَيْن عجيب لا يدين أحدٌ به لأحد» حسب مقولة أخرى من فيلسوف التفكيك الفرنسي جاك دريدا، ساقه صديقنا الشاعر والأكاديمي العراقي كاظم جهاد؛ ولكن من الصحيح أيضاً أنّ قسطاً غير قليل من الوجاهة يكتنف تقديرات الجاحظ وفروست، كلٌّ على منوال أطروحته.

واحدة من الحلول التي طُرحت، في سبيل التحايل على مشقة ترجمة الشعر، كانت العهدة بهذه المهمة إلى الشعراء أنفسهم، أو إلى تلك الفئة التي استحقت بالفعل منزلة وسطى بين الشاعر/ المترجم والمترجم/ الشاعر؛ خاصة حين ينطوي المشروع على اختراقات كبرى عابرة للأرومات اللغوية، من نوع اشتغال الشاعر الأمريكي إزرا باوند على الشعر الصيني، أو انهماك شاعر أمريكي كبير آخر هو و. هـ. أودن في الترجمة عن اليونانية والكرواتية والألمانية والآيسلندية والإيطالية والسويدية… في آن معاً؛ أو، في نموذج ثالث على غرار الروائي والمسرحي الإرلندي صمويل بيكيت، لجهة المراوحة بين كتابة الشعر بالفرنسية والإنكليزية والترجمة بينهما.

الترجمة ضرورة ما دامت اللغة أبعد بكثير من مجرد اتصال بين متكلّمَيْن، وهي في الشعر ضرورة مفتوحة لا تنتقص من أهميتها هذه الدرجة أو تلك من «الخيانة»، الدلالية أو اللسانية أو الأسلوبية

حلّ آخر عملي، لإحقاق حقوق القصيدة وفي الآن ذاته إنصاف الشاعر والمترجم معاً، اقترحه مشتغلون بالأبعاد السوسيولوجية والقرائية للشعر المترجم، ومفاده أن تُستخلص جملة من ستراتيجيات الترجمة والصياغة والتعبير عبر المقارنة بين نماذج مختلفة من النصّ الشعري ذاته؛ كأنْ نذهب، في مثال عربي، إلى الترجمات العديدة لقصيدة ت. س. إليوت «الأرض الخراب»، مبتدئين ربما من الخلاف في ترجمة العنوان إلى «الأرض اليباب». الأرجح أنّ رياضة مثل هذه، على ما يعرقلها من اعتبارات عديدة تكتنف إغواء القارئ بقراءة خمس ترجمات بين دفتَي كتاب واحد، يمكن بالفعل أن تسفر عن عناصر كثيرة متقاربة او متباعدة، وأن تنتهي أيضاً إلى ما يشبه التوافق حول حصيلة من نوع ما؛ تستجيب لمقتضيات الذائقة العربية في استقبال قصيدة إليوت هذه تحديداً، وربما سائر شعره استطراداً.

شخصياً، ترجمتُ لأمثال إزرا باوند، صمويل بيكيت، ديريك ولكوت، ألن غنسبيرغ، أنّا أخماتوفا، شيموس هيني، جورج سيفيريس، روبرت بلاي، ياروسلاف سيفيرت، تيد هيوز، شارلز سيميك، ريتا دوف، مايكل هاربر، لويز غلوك، توني هاريسون، وغالاوي كينيل؛ وهم ينتمون إلى لغات شتى، ويمثلون تيارات متباينة في المحتوى والشكل والموضوعات. ومنذ أن اتخذت أوّل قرار بترجمة الشعر كانت تخيّم على وجداني، أي على انهماكي في الترجمة، عبارتان؛ ولعلّي كنت أتقصد استعادتهما كلما غفلت عنهما، من باب الاستهداء بما يشبه سيف ديموقليس المسلط على العنق. العبارة الأولى من الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، الذي اعتبر أنّ ترجمة الشعر أشبه بقَلب سجادة نفيسة على قفاها؛ والعبارة الثانية من الصحابي النعمان بن بشير الخزرجي الأنصاري، الذي أنشد معاتباً: «تجودُ لها نفسي بحلو حديثها/ وتبذلُ بعد البُخْل نزراً مترجما».

وغنيّ عن القول إني ترجمت الشعر، وسوف أواصل ترجمته، مصالِحاً ما وسعتني الأدوات بين تقليب سجادة نفيسة على وجه تارة وعلى قفا طوراً؛ وبين السعي الحثيث إلى اقتناص ذاك الجوهر المكنون، الأبعد من نزر الترجمة اليسير.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي