تحياتي أيتها الجارة الشجرة

2022-06-16

علي جعفر العلاق

بعد أن انتهى عقدي مع جامعة الإمارات عام 2015، قادتني الصدفة أو الزيارة الخاطفة إلى هذه المدينة الصغيرة، المحفوفة بالهدوء والغابات والمرتفعات وعدد من البحيرات الجميلة. مثالية لشاعر، أو فنان، أو متقاعد، أو عاشق. سبقنا إليها بعض معارفنا، فكانوا القطرات الأولى في هذا الغدير الجاذب لمزيد الأصدقاء. وهكذا اشتريت شقة صغيرة فيها. ورغم ما يعتري الشاعر أو الفنان عموماً من قلق لا يهدأ، ورغم غايته التي لا تدرك، حاولت، وبمساعدة زوجتي، أن أصادق هذا المكان قدر ما أستطيع.

بدأتُ، مع الوقت وتبدلات الطقس، أشعر بامتنانٍ لمدينة بولو، ولهذه الشجرة الكبيرة، التي تقف قبالة شقتي، وفي مواجهة شرفتها في الطابق الثاني تماماً. لم تكن تلك الشجرةُ، في البداية، شجرةً بالمعنى الأخضر للكلمة. حين كان الشتاء القارس يسري في عروق الكائنات، ويخفي مركبات الناس، بدثاره الأبيض عن أصحابها، بل كانت شجرةً من عظام. لا ظلٌّ ولا ورقّ ولا حياة. ومع تحوّلات الجو تدبّ في مفاصلها الخضرةُ والورقُ والحفيف، فتصير ضخمةً، وشديدة الكثافة وكأنها تختصر بستاناً بكامله. تجود عليَّ بالكثير مما يصنع البهجة المتوهمة. فهي اليوم لا تسمح، مثلاً، بمشهدٍ واضحٍ لما يقع وراءها من حياةٍ مقفرة بسبب الحظر. ومع أنها غطت على منظر السلاسل الجبلية البعيدة، إلا أنها حجبت غياباً أكثر قسوة: أعني إقفار الشوارع القريبة، وعري الحياة من البشر، وخلوها من ظلال التواصل ودفء البشاشة. وعوضتني بحفيفها البهيج وكثافتها العالية، عما أحسه من صمت يملأ الطرقات بسبب كورونا.

٭ ٭ ٭

متعةٌ قصوى، وفضاءٌ شعريٌّ تجتمع عناصر الجمال فيه من كل صوب. يقظة الصباح الأولى، وهو يهبط من سريره الكونيِّ، لينساب طرياً في هواء المدينة الصغيرة. يتساقط النوم من أعالي الشجر، ولا تظل الطيور على حالها، بل تلتحق بجوقة الفرح الصباحيّ. تنسلّ من كسل الليل داخلة إلى بدايات النهار الأولى نشيطة فرحة. مشاهد يوميّةٌ صرت حريصاً على التماهي معها كل يوم. غير أن أجمل هذه المشاهد، فيما أرى، ما نعيشه في فصل الخريف. مناخٌ شعريٌّ بامتياز، يرتجله هذا الفصل المليء بالتداعيات. الغيوم الهابّة، في هذا الفصل، من سلسلة الجبال المجاورة، تقدّم لفضاء المدينة وعشب الأرصفة صباحاً بالغ الخفّة.

اعتدنا أنا وزوجتي، أن نرى حدائق المدينة تستقبل حشودا متتالية من الغيوم التي تقبل، مسرعة أو متثاقلة، من سلسلة المرتفعات المطلة. يهبط الغيم ويرتفع الشجر للقائه، فيزيدان هواء المدينة طراوة ولطفاً. واعتدنا، في ساعات الصباح الأولى، أن نذهب إلى الحديقة العامة، على مقربة من العمارة التي نقيم فيها، وكثيرا ما تفاجئنا الطبيعة، كل يوم، بما يكسر رتابة الأيام التي مضت.

يتوإلى على هذه الحديقة أناس كثيرون للتمشي أو استخدام الأجهزة الرياضية، وأنت تسير في الممشى، وعلى مقربة أو على مبعدة منك، لا فرق، أعمار مختلفة، وأجيال تنتشر في مضمار الحديقة المخصّص لهذا الغرض. يتركون أسرتهم الدافئة مسكونة ببقايا النوم، ويذهبون إلى الحديقة المكتظة بالشجر الطافح بخضرة رشيقة، وتتوسطها شجرة أدركها الشيب فأخذ لحاؤها المتغضن يتذمر مما فعلته به الريح وتقلبات الفصول.

٭ ٭ ٭

في الممشى الدائري، ثمة ماراثون يوميٌّ بإيقاع متفاوت. ينساب بخفة تستدعيها نشوة الشباب، أو هدوء تفرضه حكمة الحياة ومنطقها القاسي. في هذا الماراثون الصباحيِّ، الخافت أو الحافل بالجاذبية، يتجسد جدل الحياة بما فيها من بهجة أو ألم. حالتان تدعوان إلى التأمل: شابة في مقتبل نضجها المثير، تمضي إلى مستقبلها الذي تتلهف للقائه منذ سنوات. دوامة من عطر ذائب كالفرح، وكلام ينبثق مثل هالة من المسرة. وعلى مرمى هدبين ينطبقان على حلم ضائع، ثمة شيخ يدبّ على عكازين من الضجر، محاولاً، بما بقي لديه من قوة، أن يستلم من فرح النهار ما يقوى على حمله.

زوجان كهلان لا يمشيان على أرض تغرق في فراء أخضر، بل في كلام حميم وبقية من بشاشة لم تطفئها الأيام. يقيسان المسافة بينهما بالمحبة تارة، وبالعتب القديم تارة أخرى، وكأنهما يحوّلان هذا التجوال الصباحي المفعم بالمودة والرحمة إلى فصل من التذكر المشترك والبشاشة المستعادة. غير أن عينيك لا تخطئان نموذجا آخر، حيث تنقطع فترة البث الوجداني الحي بين اثنين من أفراد هذا التجمع، فيغدو الصمت، بينهما، وكأن له ملمسَ الحجر المثلّم أو رائحة كلام مكرور فقد جدواه.

ثمة مشاهد ومواقف يتمُّ فيها الإفصاح عن ألفة جديدة تتوطد تدريجيا، بين أفراد هذا التجمع، حتى أن غياب البعض عن ذلك التمشي اليومي، لا يمرّ بسهولة، ومع أنه غياب صغير، لكنه يهز نسيم المنتزه البارد، إلى درجة التساؤل الحنون، أو القلق المقارب للإشفاق، وكأن هذا الغياب الطارئ، عن هذا المشهد، إنذار بغياب قد يكون ذا دلالة قاسية. وبعد أن ترتفع في سماء المنتزه شمسٌ غائمةٌ صغيرة، يتوزع الجمع بين عائد إلى بيته، أو جالس على واحدة من تلك المصاطب أو المظلات الخشبية التي هيّأتها، كما هيّأت المكان كله، بلدية المدينة. ويضم الجميع، والمتقدمين في العمر منهم خاصة، أمل في لقاء آخر، وتحت شمس أكثر دفئا.

٭ ٭ ٭

كنت أتكئ، في هذه المدينة الصغيرة الحافلة بالرياح الممطرة، على شبّاك غرفتي الوحيد. أرقب من وراء زجاجها الذي يرتجف من البرد، غيوماً ثقيلة يزحم بعضها بعضاً، وأسراباً من الطيور تهم بالتحليق. تشرئب قصيدة الشاعر من جهة القلب، مثل برعم يتهيأ للظهور، مستجيبةً للحظةٍ من لحظاته، لحظةٍ عاشها بتعبٍ شفاف، منقوعٍ بمطر لا يكف عن التذكير بنفسه، رغم أن الشجر، خارج غرفتي، يغرق بالثلج منذ الليلة الماضية.

وفي كل يوم تقريباً، أشهد كيف تتحول هذه اللحظة إلى جزء من سخاء رباني مقبل إلى المدينة. طبيعة تخرج عن نظامها بين عشية وضحاها، وتغير الكثير من عاداتها التي ألفناها مراراً في اليوم الواحد. الشجر الأبيض الطريّ يخفي عن الطيور خضرته المألوفة، والريح تغرف ألوانها من الأرصفة المثقلة بالقطن، والعشب النافر من بين أحجار الطريق. أية لحظة هذه، شيء من الدفء يدب إلى بياض بارد، تتشكل خارج البيوت. لتكون بداية لدفء من نوع خاص، يتدفق بين عظام الناس ويتنقل بين لغاتهم في وقت قريب. وبين دفء الداخل وثلجية الخارج، ثمة مسافة يتسرب منها خيط من المودة، أو الذكرى، من الارتباط الذي لا ينقطع بين فصلين يمران معاً في لحظة من البياض الرمادي، يمتزجان فيه وينفصلان عنه في الآن نفسه.

٭ ٭ ٭

ها هي الفصول تتبادل شيئاً من صفاتها. لحظة يترك فيها الخارج أثره على الداخل النفسي للناس. عطاء يجمع بين شغف البشر بالتواصل وحنينهم إلى العزلة، لحظة تتداخل فيها الفصول، شتاء نشهد بقاياه الأخيرة، ونتلمس بعضاً من آخر رغباته، وربيع يدخل تدريجياً إلى مفاصل المدينة، ويحيط عريها بالخضرة. ها هو الشتاء يعود عودة سريعة ليحمل بعض حقائبه المنسية ثم يمضي إلى نهاياته الأخيرة. النهار يأخذ للمرة الأولى أهبته لإطلالة مختلفة، أو دائمة ربما. تاركاً المكان لريح خضراء، خفيفة، شفافة تعبر شوارع المدينة برشاقة أنثى. الطيور تكمن في مكان ما، في انتظار حفنة من الضوء، وشمس تجلس «عارية الكتفين على المصطبة» في انتظار شجرة تنفض شعرها الأشيب الغزير وتتركه يذهب بعيداً مع الريح. والناس في الجوار، ينتظرون صحواً نهائيا، حاسماً وصريحاً. لكنهم لا يظفرون بذلك دائماً. فهذا التداخل بين الفصول لا بد منه، إنه طلائع زمن جديد يطل من التوافد على مدينة بولو الصغيرة.

٭ ٭ ٭

غير أن هناك دائماً ما يعكر الحلم، ويربك تدفقه الناعم. وكأن هادم اللذات ومفرق الجماعات يكمن للبشر دائماً، في مكان ما. يترصدهم في أجمل لحظاتهم. ليفتك بتناغمها. هناك زمن آخر. يشوه استمتاعنا بكل تلك الطبيعة الباهرة. كان الوباء على الأبواب. وجدناه دفعة واحدة ذات يوم، لم يترك لنا فرصة للاختباء، أو الهرب، أو المخاتلة. فجأة وجدنا أنفسنا عاجزين أمام هذا الوباء. شراسة تفوق طاقة البشر، وتفيض على ذكائهم التقني وما في تخصصاتهم من كشوفات ترقى إلى مستوى المفاجأة. وقفنا أمامه، أفراداً ومؤسسات وحكومات على حد سواء، ونحن في حالة من العجز المطلق. وكأننا نتفرج على قدراته العجيبة وهو يفاجئنا من الجهات جميعاً.

كان يوم وصلنا إلى إسطنبول، في آذار/مارس 2020، وكأننا، ونحن نغادر على الطائرة الإماراتية، فارون أمام طوفانٍ، لا يبقي لا يذر. كانت رحلتنا هي الأخيرة قبل تعليق الرحلات بين دبي وتركيا. لم يتغير من جمال الطبيعة شيء، لكننا، كبشر، أصبنا في مقتل. وتعطلت فينا مباهج كثيرة. لم نعد نتذوق العالم كما كنا نفعل، بل صرنا نتشممه منقوصاً ونتحسسه منقوصاً، ونراه ونسمعه منقوصاً أيضاً، فهو اليوم يقع خارج حواسنا تماماً. نرى بعضنا من وراء حجب، ونصافح أصدقاءنا بقفازات، فلا يرون ملامحنا ولا نرى انفعالاتهم، أو نسمع منهم بهجة أو عتاباً. لحظة فارقة، تجعل كل شيء مختلفاً:

كنا نمضي إلى حديقة نرتادها، للتمشّي، كل يومٍ تقريباً..

قالت زوجتي، وقد توقّف المطرُ الخفيف فجأةً:

يالها من بهجةٍ لا تصدق.

قلتُ، بعد أن ارتفعت الشمسُ من وراء الجبال المبللة :

لنجلس قريبين من ذلك النسيم الذي يتجول بين المصطبات.

قال الشرطيُّ، وهو يقفُ فجأةً بدراجته الضخمة وكمامته البيضاء:

عليكما أن تعودا إلى البيت حالاً.

شاعر عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي