فيلم مستوحى من أحداث حقيقية يكشف عن جريمة كارثية لم يعاقب عليها القانون الأميركي

أب واحد وعشرات الأبناء ضحايا.."والدنا" وثائقي أميركي صادم عن طبيب صار أبا لأبناء مريضاته

2022-06-15

المخرجة تكثف في هذا الفيلم من استخدام مجمل الأدوات الفنية الضرورية واللازمة من أجل تقديم وثائقي صادم (الصورة عن نتفيليكس)طاهر علوان*


البحث عن الذات والبحث عن الجذور يوازي في بعض الأحيان فكرة الوجود البشري برمته بمعنى أن الشخصية التي تجد نفسها ضائعة الهوية وبلا جذور واضحة سرعان ما تنزوي عن مجتمع لا تنتمي إليه وتبحث خلال ذلك عن توازن بديل فيه بعض الأمل وبعض الإجابات عن الأسئلة.

هذه المقدمة تنطبق على هذا الفيلم الوثائقي “والدنا” للمخرجة لوسي جوردان، والذي رافق عرضه ضجة هائلة بسبب كونه يكشف عن جريمة كارثية لم يعاقب عليها القانون، وهي ولادة أطفال من صلب طبيب أميركي مختص في أمراض العقم والخصوبة، فعوضا عن علاج أزواج تلك النسوة فإنه كان يقوم بحقنهن بسائله المنوي، على أساس أنه يعود لأزواجهن أو لمتبرع مجهول في حالات العقم الكامل للزوج.


هذه القضية الأخلاقية لا يكاد العقل يستوعبها أو يتقبلها مع تصاعد وقائع الفيلم الذي تحرص المخرجة على جمعها وتفجيرها تباعا، وخلال ذلك القيام بعملية بحث مضن وطويل في تلك القضية الإشكالية التي تتم إثارتها بعد عقود من وقوعها، وليكتشف عشرات الأشخاص أن آباءهم ليسوا الذين يعرفونهم والذين ربوهم وسهروا على مسيرة حياتهم، بل إن لهم جميعا أبا آخر هو الطبيب دونالد كلاين.

والقصة تبدأ بسؤال من الفتاة الشجاعة جاكوبا بالارد وهي في حوالي الثلاثين من عمرها، لماذا إخوانها ذوي شعر أسود وعيون بنية بينما هي شعرها أشقر وبشرتها بيضاء، حيث أن أمها لم تتزوج من رجل آخر.

هذا السؤال المحيّر الذي لم تجد لدى والدتها إجابة عنه يدفعها إلى البحث عن تكوينها الجيني وجذورها، وبفضل التقنيات الحديثة وبواسطة شيفرات “دي أن أي” صار بالإمكان التعرف على أي شخص يحمل نفس الخريطة الجينية، لتتعرف بالصدفة على فتاة تحمل نفس صفاتها الجينية وتعيش غير بعيد عنها، والمفاجأة أنها كانت تحمل ذات التساؤل.

هنا ينتقل التحري إلى مرحلة أخرى وهو السؤال فيما إذا كانت الأم قد راجعت عيادة طبيب مختص في الخصوبة والإنجاب، وتصدم الفتاتان عندما تكتشفان أن والدتيهما كانتا قد راجعتا عيادة ذلك الطبيب وأنهما قد خضعتا إلى نوع من التلقيح الاصطناعي، وهو خزن النطف ثم حقنها في داخل المرأة.

يفتح ذلك الاكتشاف أمام الفتاتين الباب على مصراعيه لمحاولة الوصول إلى السجل الطبي لوالدتيهما من خلال الاتصال بالطبيب المذكور، الذي يرفض الإجابة عن الأسئلة، ويعلن أن التاريخ الطبي للمرأتين قد تم تدميره، ثم تكتمل الصدمة أن ذلك الطبيب ظل يلقّح النساء من سائله المنوي طيلة ثلاثين عاما، موهماً إيّاهنّ أنه لأزواجهن بذريعة أن القيام بعملية التلقيح بطريقة اصطناعية أي بالحقن في داخل المرأة هو الذي سوف يسرّع عملية الحمل، والواقع أنه كان يعمل بتصميم وتعمّد لكي تحبل أولئك النسوة من منطلق عقيدته الشريرة التي يستقيها من معتقد ديني منحرف، بأنه يعزز وجود العرق الأبيض الخالص في مواجهة الأعراق الأخرى وأن مهمته المقدسة تتطلب القيام بذلك.

تكثف المخرجة في هذا الفيلم استخدام مجمل الأدوات الفنية الضرورية واللازمة من أجل تقديم ذلك الوثائقي ومن ذلك الصور الأرشيفية والوثائق والمقابلات وصوت الشخص الثالث والتعليق كما أنها برعت في الانتقالات الزمانية إضافة إلى مواكبتها للشخصيات وهي تعيش صدمة اكتشافها وخلال ذلك نشاهد الرقم في تصاعد ذلك الذي يظهر الإخوة والأخوات الذين يعد ذلك الطبيب أبوهم البيولوجي.

براعة المخرجة في تصعيد الوقائع هي التي أضفت على الفيلم عوامل نجاح إضافية

كل الآلام تتجسم عاطفيا على الشاشة من خلال تحطم عامل الثقة الذي كانت تتحرك من خلاله الشخصيات، إذ من الصعب التشكيك في مصداقية وذمة طبيب أدى القسم الطبي، أما هو فبالنسبة إليه تقديم الحقائق المتراكمة ينقلنا إلى منطقة أخرى ينشغل بها الفيلم وتتعلق بموقف القانون والقضاء، فكيف إذا كان قانون الولاية لا يعاقب مثل تلك الحالات، ولا يوجد نص يتعرض لتلك الحالة ربما لكونها نادرة جدا وغير متوقعة.

خلال ذلك تبقى الفتاة جاكوبا بالارد أشبه بشخصية البطل في الفيلم الدرامي، فهي التي من خلالها تتوالى الأحداث وهي التي تجسم حجم الكارثة التي طالت حوالي خمسين شخصا، بعضهم انهار نفسيا عندما توصل إلى تلك الحقيقة المريرة والكارثية فضلا عن أمهات تم التلاعب بهن وتعريضهن إلى خديعة لم تكن تخطر على بال أية واحدة منهن.

السرد الوثائقي هنا يستخدم أدوات تعبيرية عديدة، فهو من جهة يتصدى لجريمة اجتماعية، وشخصية الطبيب هنا تشبه القاتل المتسلسل، فضلا عن وجود الضحايا المدمرين والمأزومين نفسيا، وهم يعيشون عذاباتهم الخاصة وهم يشاهدون من دمر حياتهم بالكامل ما يزال حرا طليقا يعيش هوسا بعقيدة دينية منحرفة يريد من خلالها تمجيد الجانب العنصري في العرق الأبيض القائم على فكرة الانتشار والتكاثر.

ولعل براعة المخرجة في تصعيد الوقائع هي التي أضفت على الفيلم عوامل نجاح إضافية تتمثل في أنه استند إلى عمل استقصائي دقيق ونجح في تتبع الظاهرة والوصول إلى حيثياتها الغامضة، وهو ما أضاف عنصرا من الإقناع والتفاعل مع الضحايا الأبرياء.


*كاتب عراقي مقيم في لندن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي