أناشيد حزيران

2022-06-10

حسين جبار إبراهيم

في نيسان/إبريل عام 1966، اعلن راديو بغداد عن مقتل الرئيس عبد السلام محمد عارف بسبب ارتطام طائرته المروحية بالأرض واشتعال النار فيها. وقد أسرع العسكر بتنصيب أخيه عبد الرحمن محمد عارف رئيسا للجمهورية خشية (استيلاء) المدنيين على مقاليد الحكم، فبقيت السلطة بأيديهم منذ أن قضوا على النظام الملكي بانقلاب دموي عام 1958. وفي الخامس من حزيران/يونيو من السنة التالية (1967) أذاع راديو القاهرة بيانا عن قيام (إسرائيل) بشن الحرب على العرب، وتوالت بعد ذلك بيانات أخرى تحدثت بلهجة حماسية ونبرة عالية عن انتصارات الجيوش العربية على اليهود في البر والبحر والجو. وكان يُعلن في كل بيان عن رقم جديد بعدد القتلى الإسرائيليين وعدد طائراتهم المصابة ودباباتهم وعرباتهم المعطوبة. وقطع راديو بغداد في ذلك اليوم نفسه برامجه الاعتيادية وباشر بإذاعة أخبار المعارك وبياناتها نقلا عن راديو القاهرة، وكانت تتبع تلك الأخبار والبيانات موسيقى عسكرية وأناشيد وطنية الهدف منها تعبئة الجماهير وإلهاب حماسة الجنود.

كانت أسرتنا تسكن في ذلك الوقت في (وادي حجر) المحلة الفقيرة جدا إلى حد التعاسة والبؤس، التي تقع في الطرف الغربي من مدينة الموصل. كان بيتنا يحتوي على غرفتين صغيرتين وباحة إسمنتية مكشوفة على كل عوامل المناخ وتغيراته، ويجاورنا مقهى شعبي يدعى (كازينو محمود العلي) ذو مساحة واسعة نسبيا وغير مسقوفة سوى جانب منها بحجم غرفة صغيرة غُطي بألواح من الصفيح والخشب وبقماش سميك. وكنا نرى المقهى بأكمله، مع رواده الجالسين فيه، كلما ارتقينا الدرج المؤدي إلى السطح.

زارنا في ذلك النهار بعض أصدقاء أبي، فنهض يستقبلهم ويرحب بهم بفرح غامر وراح يروي لهم قبل أن يجلسوا على التخت الخشبي الوحيد، ما سمعه من الأخبار عن بطولات الجيش العربي وتقدمه المتواصل وسيطرته على معظم الأهداف، ثم بشرهم بنهاية مؤكدة وقريبة لإسرائيل وللصهاينة فيها. وكانت أمي تصغي إليه ولأصدقائه ولأصوات المذيعين المدوية، فضلا عن صخب وضجيج رواد المقهى المجاور وجلبتهم المتصاعدة، متخيلة أن اليهود يركضون وهم يحملون أطفالهم المذعورين أمام زحف الجيوش العربية التي تطاردهم وتقذفهم بلا هوادة ولا رحمة بالقنابل والرصاص، فيتساقطون على الأرض كالذباب، فشعرت بالإشفاق عليهم وقالت بأسى:

ـ خطية! أكيد معهم أطفال! وعلى المسلم أن يعفو ويصفح عند المقدرة.

فصاح أبي محتجا وهو يعصر التبغ بقبضته ويضعه على رأس الأركيلة ثم يضع فوقه جمرات صغيرة انتقاها بعناية من منقل الخشب المشتعل:

ـ إلى جهنم.. هم الذين بدأوا الحرب.. اسكتي، أنتِ لا تفقهين شيئا في السياسة! هل تعلمين ماذا صنعوا بالفلسطينيين؟ هؤلاء صهاينة، وليسوا من يهود الأمس الذين كانوا يعيشون في جوارنا حين كنا نسكن في العمارة ثم في بغداد.. ليس فيهم أحد من بيت أم داؤود، ولا بيت دنكور!

كان الراديو يبث أغنية كارم محمود (أمجاد يا عرب أمجاد في بلادنا كرام أسياد) تبعها صوت المجموعة المصرية وهي تنشد بإيقاعات قوية (الله أكبر فوق كيد المعتدي). وبدأ أبي يسحب الهواء من خرطوم أركيلته بقوة، ثم ينفث دخانا كثيفا من فمه وأنفه والضيوف ينظرون إليه بعيون مفتوحة، فيما كنا نحن نستمع بشغف للأناشيد من المذياع الكبير، وتتناهى إلى أسماعنا بوضوح صرخات الإعجاب والكلمات البذيئة والقهقهات العالية من بعض رواد المقهى المتكدسين على الأرائك، الذين لا يكفون عن طلب المشروبات الساخنة والباردة.

لم يشغلنا نحن الصبية والشباب سوى تلك الأناشيد الحماسية، ننصت إلى موسيقاها وإلى أصوات المطربين والمطربات القوية التي لم نكن قد سمعناها من قبل بتلذذ واستمتاع، ورحنا نلح على الكبار بالسؤال عن أسماء أصحاب تلك الأصوات، فيجيبوننا مرة ويتجاهلوننا مرات. وصدح صوت المطرب اللبناني محمد سلمان وهو ينشد (لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى) وإذا به يتمازج رويدا رويدا مع صوت المذيع الجهوري وهو يتلو بيانا ناريا أثار الناس وأجج حماستهم حتى راح أكثرهم يكبّرون ويصلون ويسلمون. لقد أعلن عن دخول طائرات القوة الجوية العراقية إلى العمق الإسرائيلي وضربها أهدافا محددة في إحدى مدنها ضربات شديدة ماحقة. وتبعت ذلك البيان أنشودة (يا ويل عدو الدار من ثورة الأحرار) بصوت المطرب محمد قنديل.

وعلى مسافة مئة متر أو نحوها، ارتفعت حماسة العم عبد الكريم البقال إلى أقصاها، ورمى الميزان الحديدي من دكانته إلى الشارع فتفكك قطعا بعد ارتطامه بالرصيف، واستمر بالبيع دون كيل وبسخاء قل نظيره، فانتهز الناس الفرصة الثمينة واشتروا منه ما احتاجوا اليه وما لا يحتاجونه من الحبوب والسكر والسمن والطحينية والدبس وسواها. لقد كان الرجل معروفا بكرمه الحاتمي وعطفه الأبوي على الفقراء وتسامحه الإنساني مع الذين لا يملكون من حطام هذه الدنيا شيئا، ولا يستطيعون تسديد ما عليهم من ديون.

أثارت الأناشيد وأصوات المطربين والمذيعين فينا التأثر الشديد والانفعال المفرط، إلى حد أني أخذت أنظر حولي لأتأكد هل أن الدنيا ما زالت في مكانها؟ ثم رحت أتساءل: متى ينتهي هذا الوضع، وما هو المقبل؟ هل سيكون أفضل؟ هل سيستمر هذا الحال طويلا؟ ولسوء الحظ أو ربما حسنه، لم يتأخر الجواب، بل جاء بأسرع مما رجوت.

في التاسع من يونيو 1967، كان الصمت مطبقا والسكون مخيما على الشوارع والبيوت بشكل غير مريح وغير مألوف، وكانت كازينو محمود العلي لا تسمع فيها نأمة. غادر أبي البيت مبكرا إلى مقهى بلال على الشاطئ الأيمن لنهر دجلة، لعله يتخلص من نظرات أمي وأسئلتها، ويجد سلوته في مقهاه المفضل مع الأصدقاء يشاركهم الحديث بشأن الأخبار الجديدة والمفاجئة والصادمة. ودفعني الفضول للنظر إلى المقهى، فارتقيت بعض درجات السلم وأطللت عليها، وجلت بنظري في ساحتها، ولشدة استغرابي رأيت عددا لا بأس به من الرجال وليست فارغة كما توقعت أنا وبقية أفراد أسرتي. كان بعض الجالسين يدفع بأنامله حبات سبحته بعصبية، وبعضهم يدخن السجائر أو يرتشف الشاي وهو ينظر إلى لا شيء بعينين جاحظتين من محجريهما، وآخر يتحدث مع رفيقه بهمس وهو مطرق لا يكف عن هز رأسه. وحين أصغيت جيدا إلى المذياع سمعت صوت مذيع وهو يكيل الشتائم للصهاينة وينحو باللائمة على أمريكا والاستعمار الغربي وأذنابهما من العملاء والخونة المتآمرين، ثم تبع ذلك صمت طويل انسابت بعده موسيقى فيها شجن وفيها غضب، ثم تهادى صوت محمد عبد الوهاب متظلما شاكيا: (أخي جاوز الظالمون المدى، فحق الجهادُ وحق الفدى).

لقد اتضح أن المعركة كانت في غير صالح العرب من بدايتها إلى نهايتها، ولم تكن تلك البيانات سوى أكاذيب (حكومية) انطلت على شعوب تكره الواقع وتعشق الخيال وتعيش فيه. لقد تغيرت اللهجة وانخفضت حدة الصوت، ولم نعد نسمع من حناجر الناس سوى تأوهات ولعنات. وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قرارا بوقف القتال، سارعت الدول العربية إلى قبوله في اليوم نفسه بعد أن ضاعت الضفة الغربية لنهر الأردن كلها وغزة وسيناء والجولان والجزء الشرقي من مدينة القدس. ولكي تخفف الحكومة من الصدمة على أبناء الشعب وتشفي غليلهم في أعدائهم، قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ثم حرّضت على ضرب المصالح الغربية، فوقع اختيار الساخطون على مواطن الثقافة والعلم لتكون أهدافا لضرباتهم، فأغلق معهد غوتة الألماني التعليمي بابه، وخرج المدرسون الألمان مطرودين من المدرسة الثانوية الصناعية التي كانوا يحاضرون فيها. وأبلغت وزارة الثقافة والإرشاد الحكومة الألمانية بعدم تجديد الاتفاق الثقافي الذي كانت قد أبرمته معها، وأبلغتها أيضا عن إلغاء الاتفاق الإذاعي والتلفزيوني بين الدولتين. وهكذا انتقل العراق من وضع سيئ إلى وضع أسوأ، فشهدت شوارعه ومدارسه وجامعاته المزيد من الاضطرابات والتظاهرات. وبفرح وبهجة غادرنا مقاعد الدراسة وتجمعنا على الأرصفة خارج حدود المدرسة، قادنا رجل داكن الوجه لم نره من قبل، سرنا خلفه في الشوارع الخالية ونحن نزعق بقوة وحماس:

ـ لا دوام بعد اليوم، لا دوام بعد اليوم…

واكتشفنا فجأة أننا بلا قائد، فقد اختفى ذلك الرجل ذو البشرة الداكنة، فشعرنا بالضعف وتفرقنا وأسرعنا بالعودة إلى بيوتنا ينتابنا إحساس بالخوف والانكسار حتى من نظرات الناس إلينا. وحين دخلت إلى الدار سمعت عبد الوهاب يغني الأنشودة ذاتها، أخي جاوز الظالمون المدى، ما أكثر ما تكررت في تلك الأيام! كأن لم تبق أنشودة غيرها مناسبة للذوق والأسماع. وفجأة اصطدمت بقامة أبي المديدة، فرفعت رأسي أنظر اليه مبتسما ببلاهة، فقال لي وهو يرفع يده بخشبة ويهوي بها على رأسي مرتين فتتفجر الدماء وتسيل على وجهي ورقبتي:

ـ هذا سيذكّرك بان لا تحشر نفسك في عمل له علاقة بالسياسة.. أبدا، أبدا.

تبين أن العم عبد الكريم البقال لم يكن له سوى سهم واحد في محل البقالة، فضلا عن أجور عمله فيه. وقد رفض بقية الشركاء لسوء حظه التنازل عن حقوقهم في التعويض عن الخسائر التي تسبب بها كرمه الزائد وتسامحه والطريقة الإنسانية التي تعامل بها مع البشر، فاضطر إلى بيع ما يملك وما تملكه زوجته وبناته؛ والأدهى أن الناس هناك، وحتى المدينين له منهم، اكتفوا بالنظر والتأسف دون أن يساهموا بدرهم واحد لإنقاذه من محنته، على الرغم من أنه لم يبرز دفتر الديون المستحقة عليهم. لكنهم على أي حال، لم ينقطعوا عن ذكره والثناء عليه في مجالسهم بعد أن مات هما وكمدا وقلقا على مستقبل أسرته.. ربما كان صحيحا ما ذكره أحد البلهاء في محلة وادي حجر، بأنّ العم عبد الكريم هو الشخص الأكثر تضررا من نكسة حزيران من أبناء الأمة العربية قاطبة.

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي