متى ينام الرّقيب؟

2022-05-27

إبراهيم نصر الله

في بحثي بين أوراق قديمة للعائلة، عثرت على عدد من الوصولات التي تعود لستينيات القرن الماضي، من بينها الرّخص السنوية التي كانت العائلة ملزمة بالحصول عليها حتى تتمكّن من اقتناء جهاز راديو، وقيمتها دينار، وخلف وصْل الرّخصة الصادرة بمقتضى المادة 15 من نظام الأجهزة اللاسلكية اللاقطة رقم 1 الصادر عام 1955، هناك عدد من الالتزامات التي على مالك هذا الجهاز التقيّد بها، ومن بينها أن الرخصة تبدأ في اليوم الأول من آذار / مارس، وتنتهي في الثلاثين من نيسان / أبريل، وهذا يشمل كل مقتني أجهزة الراديو في المملكة الأردنية الهاشمية، وكل منهم مُلزم بالحفاظ على الجهاز الذي لديه، كما لا يجوز استعمال أكثر من جهاز برخصة واحدة، ولا يُقبل أي ادّعاء يراد به شطب الجهاز لأي سبب من الأسباب ما لم يقدِّم مالكه الأدلة الكافية إلى دائرة البريد خلال شهر واحد على الأكثر من تاريخ وقوع السّبب، ولوزارة المواصلات حقّ قبول هذا الادعاء أو رفضه، وكل من يتخلف عن تجديد رخصة جهازه يستوفى منه رسم مضاعف. وحين دخل التلفزيون بيتنا في سبعينيات القرن الماضي، كان علينا أيضًا الحصول على رخصة له، ولذا كان صاحبه ملزمًا بإبلاغ وزارة المالية في حال سرقة الجهاز أو احتراقه أو تلفه أو غير ذلك خلال شهر من وقوع الحادث.

قد يظن كثير من الناس أن هذا الأمر متعلّق بالآباء والأجداد، لكنه، كما يبدو، متعلق بالأبناء والأحفاد أيضًا! فحين أرسل لي ناشري من بيروت نسختين من روايتي الأخيرة إلى عّمان، عبر البريد السريع، تمنيت لو أنني صبرت قليلًا، حتى تصل النسخ إلى الموزّعين، بدل أن أعاني كل تلك المعاناة وأنا أخوض معركة تحرير النسختين.

من الطبيعي، أن بريدًا كهذا يطلق عليه (Door to Door)، من الباب إلى الباب، يُلزم الشركة الناقلة أن تسلِّم الطرد المرسل لصاحبه في بيته أو عمله، لكن ما حدث غير ذلك.

لقد اتصل مكتب البريد السريع يخبرني بأن عليّ استخراج رخصة إجازة من هيئة الإعلام للكتاب المُرسل، وحين جادلته بأن عنوانه «طفولتي حتى الآن» وليس «كيف تصنع قنبلة ذرية في ثلاثة أيام»، أخبرني بأن هذا إجراء حكومي إذا ما أردت الحصول على الكتاب.

انتظرت ثلاثة أيام حتى أوصل لي (الناقل السريع) نسخة من الكتاب الرّسمي الصادر عن جمارك المطار ورقابتها، فذهبت إلى هيئة الإعلام، والحقيقة كانوا لطفاء كثيرًا، وبعد إتمام إجراءات الرخصة، ذهبت إلى مكتب (الناقل السريع) وسلّمته قرار الإفراج عن النّسختين، فأخبرني أن الطرد سيصلني خلال ثلاثة أيام، مع أن المسافة بين المكتب والمطار 25 دقيقة بالسيارة. فما كان عليّ إلا أن أخبرتهم، محتجًّا، أنني أرسلت نسخًا من كتب لصديقة في أقصى الغرب الأمريكي، من عمان، يوم الاثنين فوصلتها يوم الخميس، أي خلال ثلاثة أيام!

هنا تحسّ أن الجميع يستهينون بك، بدءًا من الدولة، وصولًا إلى هذه المؤسسات العملاقة التي تجوب طائرات البريد التابعة لها أجواء العالم، وتحسّ أن أمرًا كهذا لا يمكن أن يحدث في دولة تحمي مصالح مواطنيها بالقانون، وأنت ترى كيف تنتهك الدولة حقوق مواطنيها، هنا، بالقانون.

بعد ثلاثة أيام وصلت النسختان، فتبين أن الطرد مفتوح، وأن الجمارك انتزعت النايلون عن إحداهما، وتصفّحتها، وتقبل بهذا مرغمًا، لكنك تفاجأ بأن عليك أن تدفع ما يعادل 15 دولارًا كجمارك على الكتاب، أي ما يعادل 60 بالمائة من قيمة النسختين، مع أنه لا توجد جمارك على الكتب في الأردن!

ولم يكن الأمر ليكتمل بسخريته السوداء إلّا بوصول عدد من نسخ ديوان لي ترجم إلى الفارسية عنوانه «مرايا الملائكة» وهو بمثابة سيرة متخيلة للطفلة الشهيدة إيمان حجو، حيث ترى، مذعورًا، كيف يتصاعد حجم الخطر في مبنى البريد الحكومي السريع أيضًا، البريد الذي لن تعرف أن لديك طردًا فيه إلا إذا أخبرك مرسله بذلك، فهم لا يكلفون أنفسهم بالاتصال وإخبارك بذلك.

الحقيقة المُرّة اكتشافك أن هناك استنفارًا غير عادي يحدث في المبنى، حيث الأمن يأخذ نسخة ويتأملها لمدة ساعتين وأنت تنتظر، مع أنه من المؤكد لا يوجد موظف يتقن الفارسية، وحين تحتج، لا يقتنعون بحسن نواياك، أو أنك مؤلف الكتاب؛ رغم وجود هويتك بين أيديهم واسمك مكتوب على غلافه كما يكتب بالعربية، كما لا يقتنعون أن النسخ العشر المرسلة إليك ليست للتّجارة! وهم على يقين من أنك إذا ذهبت بالطرد لهيئة الإعلام فأنت غير مؤتمن، لذلك يقترح أحدهم أن يتمّ وضع الرّصاص على الطرد لضمان عدم فتْحه من قبلك: «ترصيصه»، وبعد مفاوضات عقيمة، وقد أمضيت هناك ثلاث ساعات، يمنحونك نسخة لإجازة الكتاب من هيئة الإعلام، مع أن الأرجح أن ليس هناك من يتقن الفارسية بين موظفيها.

حين ترى معاناة صديق آخر، كان عليه أن يدفع جمركًا وأجرًا عن كل يوم مكث فيه طرده في البريد (دون علمه)، تحمل النسخة وتخرج وقد اتخذت قرار الاكتفاء بها، تاركًا لهم النسخ التّسع.

مرعب أن يكتشف المرء أن حالنا بين ستينيات القرن الماضي وعام 2022 لم تتغير، وأن الخوف من الكِتاب اليوم هو الخوف نفسه من الكتاب وجهاز الراديو وجهاز التلفزيون قديمًا. كما لو أن العالم لم يتقدّم، وكما لو أن أي كتاب يأتي من الخارج يمكن أن يزلزل أركان الوعي في بلد تجاوز عدد سكانه عشرة ملايين. وكما لو أن القارئ لا يملك وسيلة للحصول على الكتاب إلا إذا أرسلتْ إليه نسخة ورقية منه، هو القادر على تحميل مئات الكتب في ساعات عبر الإنترنت، أو تحميل كل ما يوجد في بعض المكتبات من نسخ إلكترونية.

وتحار أمام هذا التناقض المرعب بين قانون يُعفي الكتب من الجمارك، وإجراءٍ يلزمك بدفع جمرك مقابل حصولك على نسختين خاصتين من كتابك أو كتب غيرك.

وبعـــد: قد يبدو الأمر للوهلة الأولى مسألة صغيرة، ولكنها ليست كذلك وهي تمسّ عشرات الآلاف من الناس الذي يتلقّون كتبًا، أو يشترونها عبر الإنترنت، سواء كانت كتبًا تندرج ضمن الثقافة العامة، أو كتبًا أكاديمية يحتاجها طلاب ومعلمون وأساتذة جامعات.

أما ما يدعو للسخط حقًا فهي تلك العقلية التي لم تزل تستعير قوانين أنظمة الطوارئ التي كانت سائدة قبل سبعين عامًا، لتطبقها على البشر في عام 2022.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي