التشكيلي السوري أسعد فرزات: أحاور السطوح التي أرسم عليها لوحتي

2022-05-10

من أعمال الفنانإسماعيل كرك*

ربما تكون عبارة الشاعرة الإنكليزية كريستينا روسيتي: «لا أحد يرى الريح لكن عندما تنحني هامات الأشجار، نعرف وقتها أن الريح مرت من هنا» خيرَ مدخلٍ نَلِجُ من خلاله إلى عالم الفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات، فأعماله الغزيرة والمتنوعة التي تُلخِّصها خمس مراحل، تجربةٌ رائدة تسير بخطىً واثقة لتوصلها إلى العالمية، وهذا ما يحدث بالفعل، فعمله الجديد والمتفرِّد الذي جَمَعَهُ مع الشاعر السوري نوري الجراح برهن على ذلك، من خلال التعاون على (تحبير) وتلوين المأساة السورية في العمل الفني المشترَك، الذي حمل عنوان قصيدة نوري الجراح (الخروج من شرق المتوسط) الذي أقيم مؤخراً في (غاليري أروبيا) الباريسي في الفترة الممتدة من العاشر من آذار/مارس إلى الخامس عشر من نيسان/إبريل 2022.
تحت عنوان/حكايا مصورة: الخروج من شرق المتوسط/ وعن هذه التجربة يكتب الناقد المعروف أسعد عرابي: «المعرض ثنائي يتحالف فيه – بصيغة نبيلة – اللون والكلمة. فيستلهم المصوِّر أسعد فرزات لآلئه التعبيرية المرسومة، من ثنايا قصيدة الشاعر نوري الجرّاح، التي لامستْ ونكأتْ الجرح السوري والنزوح العمودي إلى شرق المتوسط».

يتحدث أسعد فرزات أيضاً عن تجربته المختلفة: «لوَّحَتْ لي قصيدة الشاعر نوري الجراح «الخروج من شرق المتوسط» بيدها، فبدأتُ برحلة تشكيلية مختلفة ضمن فضاءات ورؤىً جديدة، بعد أن وجدتُ نفسي في رحلة بحرية على مَتنِ قصيدته ولم يَكُن ذلك سهلاً، لأنني أخشى البحر، ولأن ريحَهُ فرضت معادلتها بين موتين أحدهما أكثر إيلاماً من الآخر، فإما موتٌ «بلاستيكي» مكثَّفٌ وسريع، أو موتٌ بطيء في أرض بعيدة. في النهاية قرر كِلانا وصف الغريق!». فيما يكتب الشاعر نوري الجراح من لندن: «الألوان الصاخبة في لوحة الفنان هي الصرخة نفسها التي تركها الغريق في شراع القصيدة».

من أعمال الفنان
بخصوص تجاربه الإبداعية الثرَّة، فقد سبقت تجربة أسعد الجديدة في «الخروج من شرق المتوسط» أربع مراحل ناضجة ومتنوعة شهدتها الأعوام السبعة عشر الأخيرة أثناء رحلته مع لوحاته: ففي مرحلة الأسطورة التي أنجز فيها أعماله المختلفة في تفسير الأساطير كان قد رسم سكيتش الثور بأثداء أنثوية، ولوحة أنثى اللقلق الخصبة، ولوحة حصانٍ يرتدي بردعة أنثوية، وهو ما يعزز ارتباط أعماله بأنوثة الكون. في الأسطورة أيضاً، يقودنا أسعد إلى الرحم، المكان الطبيعي الذي تنمو فيه البذور، وإلى حيث يعود الموتى للتجدد والتجذُّر من جديد، في هذه الرؤية الكونية يتعلق الأمر بالمجتمعات الزراعية لأن مخاطر التدمير لم تكن بعيدة. هذه القدرة تدل على قوة شخصية لونه الذي يُكسبه طابع التأليه البصري، فيملأ اللوحة بانعكاسات ضوئية في أسفلها كما في أعلاها خارج الإملاءات الواقعية. في مرحلة التجريد يضع أسعد إحدى قدميه على منتصف سلم فاسيلي كاندينسكي وقدمه الأُخرى المتدلية في الهواء، على بهجة (لون الغسق) ليرى ضوءه المفقود مستخدماً ذبذبات لونه الأصفر بصيغته الأنثوية المريحة، لكنه يميل إلى خلط الأحمر المغربي بأصفر ينير لوحته من الأسفل إلى الأعلى، مُبرزاً كرمَ اللعبة اللونية المدهشة، ومُوَثِّقاً ما أشار إليه جان بول بويون، في تقديمه لمذكرات كاندينسكي سنة 1974 فيصف على لسان كاندينسكي كيف وُلدت التجريدية في أعماله، يقول كاندينسكي في مذكراته: «حاولتُ في اليوم التالي أن أجد ضوء النهار، وهو الانطباع الذي شعرتُ به في اليوم السابق أمام لوحتي، لكنني نجحتُ في النصف فقط. حتى إنني تَعَرَّفتُ من الجهة الجانبية باستمرار على الأشياء، وكانت تفتقر إلى ضوء الغسق الجميل، أما الآن فقد عرفتُ ما كان ينقص رسوماتي».

 من أعمال الفنان

أسعد إذن يضع قواعد لَعِبِهِ التجريدي كما كان المصور السيريالي مان راي يلعب بالضوء في غرفته المظلمة لتشميس صوره. تؤكد لوحات أسعد أيضاً على ما جاء في مقال الناقد عصام محمد محفوظ حسين حول التحالف التراتبي بين المرحلتين التعبيرية والتجريدية من خلال الشكل عند كاندينسكي، الذي» يمتلك كيانه الروحي الخاص به حيث يمكن تشبيه هذا المكان بمثلث مُقَسَّم على شرائح أفقية تضيق عند القمة وتتسع عند القاعدة، تُشعِر العين بحركية إيحائية تتجه إلى الأمام وإلى الأعلى. وكذلك الخطوط ذات الخصائص الروحية التي تعكس الطاقة الذاتية لها للتَطلُّع إلى جمال منعزل عن الطبيعة الزمانية والمكانية، وذلك بتجاوز الفنان التعبير عن المشاعر للتوصُّل إلى التعبير عن حقيقة الوجود الظاهر لعناصر الفن في نقائها التجريدي». أعماله التعبيرية التي فُقِدَتْ معظم لوحاتها (43 لوحة) في الأردن – صالة رؤى للفنون – ولم يُعرَف مصيرها حتى الآن- يتذكرها أسعد بحزن – مع أنه ما يزال يحتفظ بسبع عشرة صورة منها – تعكس بوضوح انتقاله بها من التعبير إلى التجريد وتُمثِّل نُضجاً حقيقياً للتجربة كما صرَّح بذلك. في مرحلة البورتريه، يرى أن بورتريهاته مرتبطةٌ أيضاً بالتجريد، لأنه إذا فَكَّكَ وجوه بورتريهاته فستتحول إلى مفردات تجريدية، وهو ما سيبدأ في تطويره في المرحلة المقبلة. يضيف أسعد في أعماله عناوين أخرى بريشته من خلال إكريليك ذي شخصية وسيمة مَثَّلَها عالمُه الخاص، فمزجَ ألواناً تحمل هوية وبصمة، رسم بهما لوحاته بماركات لونية مميزة (غولد، لوفران، راوني، فان غوخ، أمستردام) ووظّفها لِتَماسُك وديمومة عالمه خارج القيود المدرسية، فكانت لوحاته أدوات اتصال تقفز فوق السياج التكنولوجي، لِتُمِّيَّع بالماء الألوان الباردة وتُحوُّلُها إلى لونِ حار ينبض باللحظة.


كما استخدم العديد من أنواع الرِيَشْ في اللوحة يقول: «أحياناً أصنع ريشتي بيدي فأستخدم أعواداً لنباتات بريّة تكون أكثر صداقةً وصدقاً مع لوحتي. لا بد من الحوار المستمر مع المادة للوصول إلى حالة من التوافق والهارموني لأن الفن ليس لوحةً جاهزة مُسبقة الصنع». ولهذا فقد رسم لوحاتٍ لا تُغلقُها الخطوط ولا الألوان ليكسر الحواجز بين الفن والحياة، مُفرِداً مساحةً شاسعةً للمُتَلَقّي الذي يمكنه إكمال اللوحة في ذهنه. وعلى الرغم من أن أسعد منفتح على التقنيات الضوئية التي تستخدمها صالات العرض المتطورة، إلا أنه يُفَضِّل أن يرى لوحة فان غوخ ويستمتع بملمس ريشته على القماش، ويشعرَ بإحساس اللون عندما ينتقل من لونه البارد إلى لون حار ينبض بالحركة والحياة كأرضٍ بِكر، فهو يؤمن باللوحة ذات اللحم والدم وليس بالأضواء التي تعكسها وبالحضور المادي التقليدي للعمل الفني، لأنّه وحده من يستطيع أن يجذب التفاعل، يشير إلى ذلك بالقول: «أعتمد على كرم المادة بالعطاء فأرسم على الورق، الكرتون، القماش والخشب أو أي سطح آخر، لكن بعد دراسة وتأمُّل، وما زلتُ في حوار مستمر مع المادة وأنتظر ردة فعلها». كما يُشدَّد على عدم الوقوع بِشَرَكِ الحالة التجارية عند بيع اللوحات، ففي إجابته على سؤال بخصوص بيع لوحاته التي لا ينوي بيعها يقول: «لا أبيع جميع لوحاتي، بل أنتقي لوحاتٍ ذات خصوصية لكي أُوَثِّقَ لمرحلة معينة، تلك اللوحات لا يمكنني أن أبيعها أو أُهديها لأنها أرشيفي وأُحبُّ أن يكون قريباً مني دائماً.
تمشي أعمال أسعد فرزات على جليد رقيق تخترقه نصف شمس وتذيبه قطرات بطيئة لنصف مطر، يمور جمال ألوانه التي لن تجف بسرعة، فهو ما يزال يمشي في ريشته نحو حُلمِهِ المفتوح مُبَسطاً ألوانه، رافضاً المساومة على حصَّتِهِ الحقيقية في هذا العالم، هامساً بعبارة فريدا كالو «سأُقَبِّلكَ بعمق لأن ذلك سيبدد مخاوفك».

*كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي