
علي لفتة سعيد
كنت قد طرقت الباب، لم أعرف بأيّ كفٍّ ملمومةٍ أو مبسوطةٍ أو بانحناءة أصابع طرقته.. لم أعرف كم طرقة في كلّ طرقة.. كلّ ما أعرفه أني أواصل طرق الباب، ولم أكن أسمع سوى صدى الطرقات ذاتها، تأتيني كأنها تصدر من جوفٍ بعيد وعميقٍ يشبه دهليزا طويلا. لم أسمع وقع أقدام ولم يأتني رد لأتوقف عن الطرق وأريح باطن كفّي أو عظمة الوسطى.
لكن الشيء الذي أتذكّره جيدا في هذه اللحظة الفائقة، حين فتح الباب، كانت منتشيةً بضوءٍ مبهر.. ضوء من ذلك الذي كنا نراه في الأفلام السينمائية حين يراد أن يكون المشهد غرائبيا، مقاربا لشيءٍ ذهني رسمته العقلية الجمعية يشبه هالةً بيضاء.. حتى أن الضوء تمدّد وأصبحت له خيوطٌ تضرب وجهي، وتسحبني وتدخلني إلى الداخل. ولا أتذكّر إن كانت يدي لم تزل تطرق الباب أو ممدودةً أو أنزلتها إلى أسفل فخذي.
لم أكن أرى شيئا له تفاصيل محدّدة، ولم أكن أسمع صوتا أو حتى نأمة، مجرّد ضوء أبيض مثل حليب الأمهات، لا يخالطه أي لون آخر. الشيء الذي خالجني في تلك اللحظة المبهرة، إني لم أشعر بالخوف.. كلّ ما كان هو شعوري بالترقّب، حتى لكأن الأمر بدا لي طبيعيا، بل لم يكن أمامي حتى السؤال عن سبب طرقاتي على الباب، بل لماذا وقفت أمام هذا الباب تحديدا، ولمَ امتدت كفّي أو أصابعي إلى الباب، ولم أنتبه إن كان الباب بظلفةٍ واحدة أو ظلفتين.. من خشب أو حديد.. من وهم أو حقيقة.. ولا أعلم مدى ارتفاع الباب، مرّةً أراه بطول قامتي، ومرّةً أعلى منّي بارتفاع جبل، وثالثةً أقلّ من كتفي.. كل ما أعرفه أنّي طرقت الباب.
المشاهد تتكرّر. لذا لم أشعر بالخوف، حين تحوّل الضوء الحليبي إلى أصابع بيضٍ بلون الحليب.. التفّ حول معصمي الأيمن وقادني باتجاه آخر لم يكن بالتأكيد غريبا لأني لم أشعر بالخوف.. لكن الشيء اللافت للحسبان أني لم أعرف إن كنت أسير على الأرض أم أسبح في الفراغ، أم أركض بسرعة الضوء الذي يسحبني.. كل ما أدريه إني سادرٌ من حيث لا أدري، فرحٌ وصامتٌ ومأسور.. سريعٌ محلّقٌ كطائر، وبطيء منتشٍ مثل سلحفاة. أغمض عيني وأفتحها فلا أجد سوى الضوء وطعم الحليب.. لا أعلم كم من المسافات قطعت، وكم من الوقت مضى.. الذي أدريه أني كلما أدرت وجهي إلى الخلف رأيت الباب يشبه حلمة أو فماً مفتوحا يسبح فيه البياض والخضرة.. فلم أعد أرى حدود الباب.. هل ما زال ثابتا على الأرض، أم وسط هالة من الفضاء أم يدور حولي؟ ما أراه فقط المنطقة التي ضربت عليها كفّي أو أصابعي.. رقبتي وحدها التي تتحرّك وبالتأكيد عيناي أيضا، الشيء المفرح أني كنت أتنفّس براحة من ينام بين ذراعين، ثمة شيء ما يدخل صدري، يشعرني بضربات قلبي التي لم تكن متسارعة ولم تكن خاملة.. شيءٌ يخرج من فتحة الباب كما الأوكسجين يدخل أنفي أو فمي على شكل ضوء حليبي.
لحظة غريبة تلك التي سمعت فيها طرقات عنيفة على الباب.. الباب ذاته.. رنّة صوت تشبه قرع طبولٍ عملاقةً، لها صوت جرس كنائسي، له صدى يشبه ارتداد صوت المآذن.. تلمست بيدي اليسرى كفّي التي يمسكها الضوء، وحركت أصابعي في الهواء لأتأكد من وجودها، لم تسمح لي الرؤية تحديد إن كان الباب ذاته الذي أسمع طرقاته أم أن هناك أبوابا أخرى؟ ظل السؤال مثل طفلٍ يتيم يبحث عن وجه بين ازدحام الوجوه.
لكن الشيء الأغرب الذي شعرت به، وعليّ أن أزف القول إلى نفسي، أني لم أكن أحلم.. ويكرّر صداي أن ما يحصل ليس حلما، بل هو حقيقة تامة.. من أن العمر الذي عشته لا يجعلني في مهب الخوف من المجهول، وكأني اصطحب معي الباب لأطرقه في أيّ لحظة، أو السنوات التي خلت، رغم أني لا أعرف إن كانت هذه المفارقة مبنية على أساس الاعتقاد، أم الظن أم شيء من الهلوسة، أن ليس بالإمكان التفكير بالمصائب والمصاعب. لم أفكّر بالاستسلام إلى الضوء الذي يسحبني باعتباره المكان التي يقبلني والباب الذي على شكل حلمة، لم يزل يتبعني، مرّة على شكل ظلّ أخضر، ومرة على شكل غيمة تتطاير داخلها فراشات بيض ترتدي ثيابا من استبرق ولؤلؤ ومرجان.
هنا أفقت وعرفت أني الآن أحلم.. في هذه اللحظة التي كنت أفكر فيها لحظة سماعي لطرقات عنيفة أو لصدى طرقات لأكون أكثر دقّة، كنت أحلم إن هذا الضوء هو الراحة المفقودة منذ عمر.. وإني سأعيش ما تبقّى وسط راحة لا ينافسها الضجيج.. ولذا حين شعرت بضغطٍ قوي على معصمي، تعإلى صوت طرقات على أبواب عديدة، أصوات تشبه انفجارات ووعيد وتردّدات مكبّرات صوت، تأتي من أعلى منائر، ومن أسفل خنادق وآبار وأنفاق، أصوات لا تأتي وحدها، بل تصحبها ألسنٌ طويلة، تخرج منها كلمات تشبه كرات النار. ولأوّل مرّة سمعت صوتا بلغتي، بحروفٍ أعرف أوزانها، لكنها لم تكن مفهومة في تلك اللحظة، تأتي من جمع الأبواب، غير الباب الذي طرقته في لحظة تأمّل، ولم أعرف إلى الآن كيف طرقته، لكنه كان على شكل حلمة.
كاتب عراقي