الكاتب في السجن

2022-05-05

قاسم حداد

مثل قندس ينهمك في بناء حصونه في نهر التجربة، طبقات فوق طبقات، بخشب الغابة، ليصدّ موجاً عاصفاً لا يراه أحدٌ سواه. عيناه مأخوذتان بالهندسة، ويداه في الكيمياء. له وحده الماء، وله من الهواء أكثر من الثلث ثلاثاً.

ليس له اسمٌ، ويعرف من اللغات ما يكفي لصمتٍ أكثر فصاحة. يستنهض هواء الدم في الرئتين بالإسفنج وفقه اليقظة. يهزّ الحارس في نومه، ويبتكر الأجنحة لصخرة الباب. ينام قبل نهاية الندم، ولا أحد يصغي للأحلام مثله، يتماثل لحركة الحياة الجديدة كلما انتفض برأسه ناهضاً من الأعماق الغامضة.

مفهوم الزمان وفلسفة المكان، ركنان تستقيم عليهما كتابة الوقت وإقامة الجسر والعبور. بعد يومه الأول في الزنزانة، لا تعود للفيزياء سطوة عليه. ويستعد للمكوث بقية الوقت. لا يحسن التفسير عندما يستغلق عليه المعنى، دلالاته تتكاثر وتزداد، ويشفّ الزعفران في قدحه فيصير كأساً زاخرة بالغوامض.

يجرد للكتابة كتباً ودفاتر وأحباراً شتى، لكل كتاب أبجدية جديدة، وفي كل دفتر كلمات ملتبسة ولدهشة القواميس دهشةً مباغتة. قمصانه تتهرّأ لفرط الفصول. لا يهدأ، خشية أن يحسبونه ميتاً. يتوغل في غابات النوم حدّ الهذيان، فيتكاسر النحل في العراجين. تسمع لوقع حروفه هرطقة التأويل والنجوى.

حذاءٌ ضيقٌ، يتقادم ويتسع، ذلك هو السجن في الظلام والليل. وللكتابة شهوة المبارزات، حصنٌ ونصوصٌ وعنفوان النصر في الهزيمة. ذلك هو السجن، عندما يزدهر القلب في الحبسة.

يتعلّم الحياة مثل تجرّع الترياق، لكنه يعلم.

يتراكم مثل أسئلة الفقهاء وهم يجهلون، لكنه يعلم.

يستثني الأحجار حين يبني، يصلي بلا آلهة، لكنه يعلم.

يتظاهر بالمعرفة، يتعلّم ويعلم

شاعر وكاتب بحريني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي