الصياغة الفنية في تجريد التونسية أماني المثلوثي

2022-05-03

محمد البندوري *

يصنف المكسيد ضمن خانة التجارب الداخلية، وتسوغ له الفنانة التشكيلية أماني المثلوثي مادة للبناء والتكوين، تمكّنها من مقاربة موضوعاتها الداخلية بواقع التلقي من جهة، وبديمومة القيم الجمالية من جهة ثانية، بحركات تبسط أشكالها بكميات مكثفة في الفضاء.
وبذلك ففي المنظور النقدي، يبدو أن القاعدة التشكيلية لديها هي فن تتحقق فيه أشكال لونية وعلاماتية كثيفة ومنظمة. لكنها أيضا من المنظور النقدي، تشكل لغزا فنيا حين تتداخل المفردات المنفصلة عبر اللون أو العلامات، فتحقق الوصل في ما بينها عبر إشارات غامضة، وبذلك فالمقاربة تتسع لتشمل كل سياقات المادة التشكيلية المشكلة للفضاء التي تتسم بوجود وشائج قائمة بين التشكيل والمواضيع. تلك الكثافة تخفي في طياتها تشعبات ومرامي دلالية قوية، مرتبطة بالتقاطعات اللونية التي تعضدها الخطابات المخفية وراء حجب الكثافة. وهي في عمقها تروم كل التأويلات الممكنة الموشوجة بمنطق التداخلات اللونية المنظمة تنظيما دقيقا.

إن مسالك البناء والتكوين تمثلها الصياغة الفنية في العملية التجريدية بكل ما يحيط بها من مفردات وعناصر تشكيلية، إذ تسعى المبدعة إلى إعادة صياغتها برؤيتها الفنية الجديدة، فيتجلى حسها الفني في الأشكال المتنوعة، والحركة والخيال، وفي التقاطعات اللونية، وفي الرمزية التي تنبثق من العلامات اللونية والشكلية، وفي الوصل بين مختلف المفردات، التي تميز الخطاب التشكيلي لديها، حيث إن هذا الخطاب يوجه الموضوع، وهو ما ينم عن تجربة المبدعة الذاتية، فعملية الرصد للموضوع تمر من عملية إنجاز الخطاب، وهو ما تترجمه من خلال إشكالات اللون المختلفة وتعدد الرؤى، بل من خلال عملية بناء الشكل واللون بانسيابية كبيرة، تواكب مستجدات العصر، وتتجلى فيها بوادر التجديد والعصرنة، لأنها تعطي فرصة للرؤية البصرية كي تؤسس معنى جديدا للدلالات ومغازي العمل الفني.

وبتعبير آخر، إن المبدعة غالبا ما تعمد إلى وظيفة بنائية ودلالية مغايرة في لوحاتها، التي تكتنفها الحركة الخفيفة حينا، والمتموجة أحايين كثيرة، من غير تفضيئها، كونها تتخذ مسارات متعددة من الطلاء اللوني واللمس والمسح بطرق متعددة. ويتضح في الفن التجريدي المعتمد على المكسيد هذا النوع من السيولة. وإن اتسم عملها بالرصد المسبق، فهي تركز في أسلوبها على تصوير الأشكال والعلامات ذات الرمزية المفتوحة. وهي تفضل أيضا الاشتغال في المنحى التعبيري التجريدي على مساحات متوسطة وكبيرة، وبألوان فارقية ومثيرة، وتسعى إلى العناية الدقيقة بقيم السطح، قياسا بخصائصها من حيث التشعب اللوني وتقاطعات الطلاءات اللونية، وعامل الحركة الذي يمنح أعمالها خصوبته الفنية والجمالية.


وهي كلها مكونات تترسب في تصوراتها الفنية فتصوغها فنيا صياغة الناظم للعقد، بالشكل الجمالي الذي ترغبه، والطريقة التوظيفية التي تلائم ماهية العمل شكلا ومضمونا. وهذا من خصائصها النابعة من ثقافتها التشكيلية، فضلا عن العلاقة بين جماليات العلامات الموظفة وجماليات التشكيل والتعبير. وفي هذا النطاق بالذات، نجد إطارا كبيرا من التوازن الإبداعي، حيث تستطيع بمهارتها العالية، أن تصنع انسجاما بين مختلف العناصر والمفردات عن طريق انصهار العلامات في الأشكال اللونية، ثم تعمد إلى تشكيل الألوان بأشكالها وفق منظور فارقي. وهذا لا يتأتى لها إلا عن طريق تطويع المجال اللوني للأشكال، وتطويع الأشكال للتلاؤم مع مختلف الصيغ الشكلية التي يقتضيها الطلاء والمسح بتموقعاتها المنظمة بشكل محكم. وهي عوالم تشكيلية تكشف عن بلاغة المبدعة، وقدرتها الإبداعية على التحرر بانسيابية وعفوية ومرونة، للتفاعل مع مختلف الأشكال التعبيرية.
إن التفسير الدقيق لبعض الأشكال التعبيرية التي تخص بعض الوضعيات في تشكيلات المبدعة تحيل إلى مجال إبداعي جديد في وضع هذه التشكيلات في قوالب لونية وعلاماتية تروم طرائق الوضع وكيفياته. لتبرهن على خصوصياتها الفنية والجمالية التي تدخل القارئ في ألغاز تعبيرية فتشركه في عملية القراءة والتأويل، وهو ما يؤكد قدرتها التشكيلية في تجسيد إمكانات تعبيرية ذات معان ودلالات متنوعة، برمزية وإيحاءات متعددة، وبتقنيات عالية.

*كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي