
إبراهيم نصر الله
كنت أتحدث مع كاتب صديق حول كتابه الجديد، الذي تفرّغ لإعداده عن شخصية أحد المناضلين الحزبيين الكبار في فلسطين، مكرِّسًا للكتاب شهورًا طويلة على حساب مشاريعه الإبداعية.
ما لفت انتباهي أن هذا الكاتب الذي تتسابق دور النشر على نشر كتبه، أبلغ أحد الناشرين، بفروسية غير عادية، أنه مستعد لدفع تكاليف إنتاج الكتاب المشار إليه، في حين أخبره الناشر وبفروسية غير عادية أيضًا، بات عالم النشر يفتقدها في معظم الحالات، أنه لن يتقاضى منه مالاً مقابل نشر الكتاب، أما إذا شاء أن يشتري نسخًا منه، فله ذلك.
حتى الآن يبدو حوارنا شكلًا من أشكال تبادل الأخبار، لكن صديقي الكاتب حين أوضح لي أنه سيشتري عددًا من النسخ، ويهديها لحزب كان المناضل رئيسه لسنوات طوال، كما سيهدي نسخًا منه لأحزاب قريبة في نهجها لنهج الحزب، لم أمنع نفسي من أن أضحك بصورة تدعو للبكاء حقًّا. وعندما سألني صديقي عن سبب الضّحك، أجبته: لأنني لا أستطيع أن أبكي الآن على الهاتف، مع أنه يحقّ لنا أن نبكي هكذا حال.
أوضحت لصديقي أننا فعلًا بتنا في زمن آخر، وأن الزّمن الذي كانت فيه الأحزاب تحتضن المثقفين والكتّاب وتدعمهم، ولو معنويًّا، ولّتْ، فقد وصلنا إلى الزّمن الذي على المثقف أن يقوم فيه بدعم الأحزاب ورعايتها، كما لو أنه يرعى أشجارًا على وشك الجفاف.
أي زمان هذا الذي تترهل فيه الأحزاب لتصبح فيه صورة للدولة العربية المترهلة؟!
تعتاش معظم الدولة العربية اليوم على القروض التي يقدمها لها البنك الدولي أو الجهات المانحة أكثر مما تعتاش على إنتاجها الوطني، وجاءت مرحلة ما بعد الديمقراطية المريضة، التي خرجت فيها الأحزاب من تحت الأرض (بمباركة الدولة التي طالما كانت قامعة لها)، وإذا بهذه الأحزاب تصبح صورة من صور الدولة، لأنها باتت تعتاش على ما تقدّمه هذه الدولة، أو تلك، لها من معونات لكي تظل على قيد الحياة، واجهةً للديمقراطية المريضة، وحجة تشهرها الدولة في وجه الشعب وهي تقول: لقد منحناكم حرية الانتماء للأحزاب، ورخصناها بحيث باتت تصول وتجول فوق الأرض، ولعل كلمة «رخَّصناها» بمعناها الآخر هي الأدقّ، فما الذي يمكن أن نفعله أكثر من ذلك؟
كالدولة، في مشهد صديقنا الكاتب، تبدو الأحزاب أيضًا، فبدل أن تقوم بدعم المواطن أو الفرد، يصبح الفرد وسيلة خلاصها: الدولة بسلاسل إجراءات رفع الضرائب، والأحزاب بزيادة حجم الاشتراكات السنوية لأعضائها كي تتمكن من دفع رواتب العاملين في مقرّاتها، ودفع فواتير الكهرباء والماء وما إلى ذلك.
تحوُّلُ الحزب إلى مكتب، مثل أي شركة، مسألة مرعبة، إذ يبدو الأمر غير مختلف كثيرًا عن واقع العمل في الشركات، فإذا كان موعد العمل في الشركة من الثامنة صباحًا حتى الخامسة مساء، فإن ساعات النضال في المقر باتت محددة أيضًا؛ من العاشرة صباحًا إلى الثالثة من بعد الظهر، مثلًا، بفارق كبير بين ساعات العمل في المقرَّين.
يبدو العمل الإضافي أحيانًا واردًا في الوضع الحزبي! فهنا محاضرة، وهناك مشاركة في ندوة، وهنا تصريح لصحيفة تحتضر، وهناك مقابلة خاطفة مع فضائية مهمَلة.
هذا الموات الذي رضيت به الأحزاب منذ بدايات ما سمي بالتحوّل الديمقراطي، كان الأرضية الأساس التي استندت إليها الثورات المضادة التي سرقت ثورات الشعوب العربية ثورة بعد ثورة، بدءًا بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، وما تلاها من ثورات وانتفاضات وهبّات.
مرعب أن تقرأ في بيانٍ أسماء عشرة أحزاب، لم يسبق أن سمعتَ بأسماء ثلاثة أرباعها، أو سمعت بأسماء قادتها أو هيئة أركان لجنتها المركزية! وقد أشرت في مقال هنا منذ سنوات إلى أن هذه الأحزاب، وهذه التنظيمات، باتت سعيدة فعلًا بقيام الدولة بتخصيص عدد لا بأس به من غرف العناية الحثيثة لها، كي تواصل حياتها الحزبية المرفهة في هذه الغرف، بحيث لم تعد تعرف ما يدور حقًّا في الشوارع المحيطة بتلك المستشفيات.
ذلك كله أفقد شعوبنا فرصة وجود قادة قادرين على التأثير في أي شيء، أو تحريك أي شيء، حتى أبدانهم، وإذا وجِدَ واحد من هؤلاء فإنه ليس أكثر من شخص متكئ على أطروحة العائلة أو العشيرة أو المنطقة، أو النّسب، أو الأصل، في أفضل الأحوال، وذلك كله ليس أكثر من تاريخ شخصي نضالي متآكل، يرى بعض البشر نصفه الملآن، ويرى بعضهم نصفه الفارغ، ويرى بعضهم طيف نضال حقيقي لم يعد أكثر من فورات كلامية، مهما كانت صادقة، تظهر في موسم وتغيب في مواسم. لا يعيش البشر المعدمون على الصدقات وحسب، بل تعيش الدول التي ما كان يجب أن تكون مُعدَمة بتذللها لمن يملكون، وتعيش كثير من الأحزاب اليوم على التذلل للمتذلل كي تبقى اليافطات التي تحمل أسماءها معلقة فوق أبواب مقرّاتها الفارغة من كل ما يشير إلى النّضال.
يبدو صديقنا الكاتب، الذي يدفع ما في جيبه من مال ويكرس ما تبقى له من عمر لمشروع كهذا، حالة تراجيدية في نبالتها الصافية، فهو يقوم بما كان على الحزب أن يقوم به، وهو يكتب، ثم وهو يشتري نسخًا من الكتاب ليهديها إلى أعضاء حزب ذلك القائد.
مفارقة غريبة، وسعي حزين، يبدو ذلك كله كما لو أنه إعلان وفاة يقول: لقد كان هناك نضال، وكان هناك قادة نذروا أعمارهم لشعوبهم، لكن تواضعهم -هم الذين عاشوا تجارب كبرى- حال دون أن يكتبوا سيرهم.
وبعــد: أي سيَر تلك التي سيكتبها قادة كثير من الأحزاب بعد عمر، واضح أنه طويل، وكل ما في نضالهم من أحداث كبرى تتلخص في تبادل الأحاديث واحتساء القهوة في انتظار موعد انتهاء النضال، في الثالثة مساء، بالتمام.