بيروت – لا تزال حادثة انفجار مرفأ بيروت والوقائع التي تلتها تثير انتباه الفنانين في شتى المجالات، وتستفز أعين المخرجين السينمائيين لطرح تلك المأساة من وجهة نظر فنية سواء بالتخيّل أو بالتوثيق.
وأحد هؤلاء، المخرج اللبناني المقيم في الولايات المتحدة كريم قاسم، الذي أخرج فيلما وثائقيا بعنوان “أخطبوط”، وفيه سرد سينمائي لمشاهد صادمة تلت انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس 2020، وحاز فيلمه على جائزة مهرجان الفيلم الوثائقي الدولي بأمستردام لأفضل فيلم في مسابقة التصوّر في العام الماضي.
وافتتح هذا الفيلم فعاليات مهرجان الفيلم الوثائقي الدولي “شاشات الواقع” الذي افتتح في السادس من أبريل الجاري وسيعرض أيضا مجموعة أفلام عربية ودولية مجانا على مدى ثمانية أيام في عدة مناطق لبنانية وهي بيروت وحمّانا وطرابلس وصيدا والبقاع.
وكان قاسم يخطط في البداية لإنتاج فيلم آخر عن لبنان باسم “أخطبوط”، لكن المخرج الذي وصل إلى بيروت في الثالث من أغسطس2020، أي قبل الانفجار بيوم، غير فكرة الفيلم بعد أن نجا من واحد من أكبر التفجيرات غير النووية المسجلة في التاريخ.
ويقول إنه كان قبل الانفجار بيوم واحد في الحجر الصحي بفندق قبالة الميناء، وكان جالسا مع والدته في الشرفة، مضيفا أنه من لحظة الانفجار تغيرت فكرة “الأخطبوط” بأكملها، و”قررت أن أصنع ‘أخطبوطا’ آخر”.
ويحكي قاسم أنه كان يهدف إلى تصوير فيلم مؤلف من 8 قصص قصيرة عن لبنان. لكن بعد أن نجا من انفجار المرفأ، قرر توثيق تداعيات الحادث في فيلم “أخطبوط”.
والفيلم عبارة عن لقطات صامتة للمدينة المنكوبة وسكّانها الجالسين في منازلهم ومتاجرهم المهدمة. وهي لقطات وإن تكررت كثيرا إلا أنها تصرخ “بصريا” بمعاناة اللبنانيين جراء الانفجار وتوضح هول الصدمة وتأثيرها على من كانوا يعيشون في أمان لتنقلب حياتهم فجأة رأسا على عقب، فمنهم من خسر بيته، ومنهم من خسر أفرادا من عائلته بينما خسر آخرون أعمالهم أو بعضا من أجسادهم.
ويوضح قاسم أن “الفيلم صامت، لا يحتوي على أي حوار. وقد قرّرت أن يكون الفيلم صامتا لأنني شعرت بأنها الطريقة الأفضل لقول ما أريد أن أقوله. كانت لدي رؤية محددة من البداية. من أول ما حدث الانفجار أدركت أنني سأنجز فيلما عنه. لم أعرف في الأول ما هو لكنني ركّبته بشكل تدريجي وعشوائي وكان غريزيا بالكامل تقريبا وأعتقد أن هذا ما جعله خاما أكثر وتجريبيا”.
ولم يتعد فيلم “أخطبوط” كونه عبارة عن مشاهد مكرّرة صوّرها كريم بنفسه بعد انفجار مرفأ بيروت، وهي مشاهد للبنانيّين في بيوتهم المهدّمة، ولقطات من طرقات بيروت المكسّرة، ومستشفياتها المنهارة وحتى المرفأ الذي لم تخمد النار داخله بسهولة وظل الدخان متصاعدا منه.
وخلال ساعة كاملة تتجول عدسة المخرج بالمشاهدين في أحياء بيروت المنكوبة، دون كلام أو حتى قصص وروايات، لتفهمه أن الكلمات عاجزة عن وصف هول الكارثة التي حلّت بلبنان وزادت من سرعة اتجاهه نحو الهاوية.
و”أخطبوط” فيلم مباشر ومؤلم، بمشاهد لا يزال يصادفها اللبنانيون كل يوم في الشارع، وهو فيلم شديد الواقعية، ويخلو من أي مسحة خيالية أو حتى لمسات سينمائية كبيرة. فكل شيء يعرض على الشاشة كما هو حاله في الشارع تماما.
فيلم صادم
ويرى هادي زكاك -وهو من الجمهور الذي حضر العرض الأول للفيلم أمام الجمهور اللبناني الذي يشارك الفيلم والمخرج المأساة نفسها- أن “الأخطبوط” نجح في تصوير حالة بيروت وسكانها بعد الانفجار.
وقال زكاك إن الفيلم “يشتغل على ذاكرتنا الجماعية وعلى تفاصيل حياة المدينة وبطريقة لافتة جدا”، ويتابع “أيضا لأن بالأخبار كان باستمرار في قصف علينا بقي مستمرّا مع كل صور الانفجار. أعتقد الواقع الذي يرويه الفيلم هو أنك تنظر إلى الصورة خارج الانفجار، خارج الحدث بذاته وهي الصورة التي تدوم لأكثر وقت ومفعولها مثل الجرح”.
ويذكر أن كريم قاسم مخرج لبناني شاب، في رصيده فيلمان وثائقيان طويلان ويستقي قصص أفلامه من يوميات نعيشها كبشر على اختلاف جنسياتنا وألواننا وأعراقنا، ويستعين في الغالب بممثلين يعيشون أدوارهم في الواقع ودون تكلّف، فتقوم عدسته بتسجيل هذا الواقع بجوانبه المتعددة، وفردها أمام المشاهد لحثّه على النقاش والتقاط انعكاسات الواقع وأبعاده وليس الاكتفاء برؤية زاوية واحدة منه.
وبالإضافة إلى فيلم “أخطبوط” يعرض مهرجان “شاشات الواقع” الذي بدأ الأربعاء ويستمر حتى الرابع عشر من أبريل 23 فيلما وثائقيا من جميع أنحاء العالم بما في ذلك لبنان وتونس والبرازيل وفرنسا وألمانيا ومصر وإيطاليا.
وتتناول الأفلام المعروضة مواضيع وقضايا اجتماعية مختلفة، من بينها ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما بما في ذلك الفيلمان اللبنانيان “فأر أسود” و”شرائط ذاوية” والبحث عن الهوية، والهجرة بما في ذلك الفيلم الجزائري “الإبحار في الجبال” والفيلم اللبناني “مشاهد من الوطن”.
وإضافة إلى عروض الأفلام، تضمن المهرجان الذي تأسس عام 2005 حلقة نقاش بين أنايس فارين، وهي باحثة في جامعة السوربون في باريس وجامعة القديس يوسف في بيروت ونور عويضة، وهي رئيسة مشروع سينماتك بيروت. وتناول النقاش الترجمة العربية لبيان فرناندو سولاناس وأوكتافيو جيتينو “نحو سينما ثالثة” والذي صدر في عام 1972.
الفيلم عبارة عن لقطات صامتة للمدينة المنكوبة وسكّانها جالسون في منازلهم ومتاجرهم المهدمة
بالنسبة إلى هانيا مروّة، مديرة ومؤسسة جمعية متروبوليس للسينما الفنية، تكمن أهمية هذا المهرجان، وهو من أقدم المهرجانات في البلاد، في كونه متخصصا في الأفلام الوثائقية التي أصبحت منتشرة أكثر فأكثر في لبنان والعالم العربي.
وقالت مروّة إن “السينما اللبنانية تأخذ مساحة أكبر لأن مع كل ما يحصل نشعر بأن الوثائقي يستطيع بأكبر قدرة أن يحكي عن الواقع مثل اسم المهرجان ‘شاشات الواقع’، يتكلّم عن الواقع الذي نعيش فيه، عن هموم الناس عن هموم الفنانين والسينمائيين اليوم والمواضيع التي تعني تقريبا كل الناس”.
وأضافت نور عويضة، نائب مدير جمعية متروبوليس للسينما الفنية، أن الأفلام الوثائقية تخلق فرصة للنقاش وأنه “نظرا لعدم وجود العديد من المهرجانات في البلاد.. متخصصة بالأفلام الوثائقية، شعرنا أنه يجب الحفاظ على هذا اللقاء سنويا”.
وأوضحت أنّ ما يجمع الأفلام المشاركة في المهرجان هو تناولها للواقع الذي تعيش فيه، ومحاولتها أن تعكس كلّ المتغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة في لبنان بشكل خاص، وفي العالم ككل بشكل عام. وهنا تأتي أهمية الفيلم الوثائقي الذي يقدّم وثيقة يُفترض أن تكون حقيقية عن الواقع والمجتمع، ويطرح علاقة السينما الخاصة مع الواقع بعرضه كما هو، وطبعا مع حفظ خصوصية كل فيلم على حدة، وإصرار إدارة المهرجان على عرض عدة وجهات نظر وأنواع فنية مختلفة.