
زيد خلدون جميل
فيينا
كان القلق يمزق الموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن، وهو يجلس بمفرده في الحانة المظلمة يراقب الموجودين يتسامرون في ما بينهم تحت تأثير الجعة. وكان السؤال الذي يحيره، هل سيكون يوم غد، الثاني والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر عام 1808، يوم مجد أم كارثة، حيث ستقوم إحدى الفرق السيمفونية للمرة الأولى بعزف سيمفونيته الخامسة. إنها السيمفونية التي يريدها أن تكون، ليس حديث المجتمع المخملي ومتذوقي الموسيقى في المدينة وحسب، بل كل شخص فيها. إنه في فيينا عاصمة الموسيقى في العالم، وسيثبت هنا أنه الوحيد في عصره، بل في كل العصور، في هذا المستوى من الموسيقى.
نظر باستهزاء نحو رواد الحانة، لا يعرفه أي منهم، ولكنهم مثلوا بالنسبة إليه العالم الذي طالما كرهه، ولكنه كان كذلك العالم الذي كان تواقا للانضمام إليه. وكان شعوره برفض المجتمع له قاتلا، فلا صديق مقرب له، لا عائلة مقربة، ولا امرأة تظهر له مشاعر الود، ولكنه امتلك في رأيه شيئا لا يملكه الآخرون، إنه الموسيقى، التي جعلته إنسانا غير عادي، فهل كان بمقدوره إثبات ذلك للجميع؟
الفرقة السيمفونية لم تكن بالمستوى الذي يروق له، لاسيما إن ما ستعزفه نوع جديد من الموسيقى. ومع ذلك، هناك ما يقلقه أكثر من ذلك، ألا وهو سمعه الذي بدأ بالتلاشي في بطء ما أثار رعبه وكوابيسه، خاصة أنه سوف يقود الفرقة السيمفونية بنفسه ويعزف البيانو كذلك. ولكن هل سيستطيع القيام بكل ذلك، وهو الذي يشكو مشكلةً في السمع؟
خرج بيتهوفن من الحانة متجها إلى منزله القريب، واستمر في السير السريع كعادته في تلك الساعة المتأخرة في الشوارع الضيقة لمدينة فيينا، حتى وجد نفسه في بداية شارع ضيق ذي إضاءة طفيفة، يغطيه ضباب كثيف، ما أثار استغرابه، فهو يعرف الشارع جيدا، ولكنه لم يشهد ضبابا كثيفا مثل هذا من قبل. ولكن هذا لم يكن كل شيء، إذ شاهد أيضا رجلا مرتديا ملابس غريبة جدا وقبعة طويلة جدا، يخرج من بين الضباب، وكان هذا الرجل يتلمس الحائط حتى وقف أمام أحد المنازل وأخذ يطرق بابه.
إسطنبول
كان الملا عثمان الموصلي يمارس هوايته المفضلة، وهي السير في شوارع إسطنبول ليلا في طريقه إلى منزله، ولم يكن بمفرده، بل يرافقه تلميذه الطيب القلب عمر ممسكا بيده، يقوده في تلك الشوارع الضيقة التي طالما استنشق هواءها واستمتع بالسير فيها. وكان الحلم الذي يراوده دائما هو أن يراها كي يستمتع بجمالها ويرى الناس والأضواء، ولكنه كان غير قادر على ذلك، فقد كان عثمان أعمى، ولذلك، فمن المستحيل بالنسبة له أن يتجول هناك، أو أي مكان آخر، دون مساعدة عمر. ومع ذلك، كانت سعادة عثمان لا توصف، إذ استقبله صباح ذلك اليوم السلطان عبدالحميد شخصيا، والجميع يعترف بأنه الموسيقار والمغني الأول في الدولة العثمانية والشرق الأوسط قاطبة، وبذلك يحقق عثمان حلما طالما راوده، فهو الآن الموسيقار والشاعر والشخصية الاجتماعية الأشهر في العاصمة العثمانية. ومع ذلك، فإن هذا المجد لم يزوده القدرة على رؤية العالم، لاسيما أقرب الناس إلى قلبه، فآخر شيء يتذكره كانت أمه التي كانت تبكي لعجزها عن وقف مرض الجدري الذي أصاب طفلها وأفقده نظارة البشرة، وفي النهاية، بصره. ولكن ما لم يره عثمان كان نظرات الناس نحوه، فوجهه المتجعد ببثرات الجدري وملابسه الغريبة تجعله محط أنظار الجميع، فقد كان الملا عثمان يرتدي ملابس الطريقة الصوفية المولوية بالقبعة والأردان الطويلة. وكان ذلك مناسبا فشتاء عام 1885 كان قاسيا، وهذه الملابس كانت تجلب الدفء، على الرغم من كونها رخيصة الثمن.
سار عثمان مع عمر، وهو يغني مع نفسه بصوت خافت حتى تناهى إلى سمعه عزف غريب وخافت، ولكن من هذا الذي يعزف في هذه الساعة المتأخرة يا ترى؟ فقال لتلميذه:
أتسمع يا عمر؟
ماذا يا ملا عثمان؟
إنه عزف على آلة غريبة لم أسمعها سابقا، وأعتقد أن أحد الأوتار يحتاج إلى ضبط.
لا أسمع شيئا على الإطلاق.
إن الصوت مقبل من هناك. ماذا هناك يا عمر؟
إنه شارع ضيق مع ضوء خافت. ولكنني لا أستطيع رؤية أي شيء، فالضباب كثيف.
قدني نحوه فورا يا عزيزي.
كما تشاء ملا عثمان.
توجه الاثنان نحو ذلك الشارع الضيق ببطء، ولكن عثمان كان متحمسا فأسرع في المشي، وأفلت من قبضة عمر الذي كان يعاني من كثافة الضباب، ما جعل الرؤية صعبة، وبذلك أصبح عمر أعمى مثل الملا عثمان. وسار عثمان نحو مصدر الصوت والحماس يسيطر عليه، إذ كان دائما شديد الحساسية تجاه أي صوت يسمعه، وقادرا على تمييزه، وكذلك ذاكرته المثيرة للدهشة لتذكر صوت جميع الآلات الموسيقية وكل من تكلم معه. وراوده سؤال سيطر عليه «ما هي هذه الآلة التي لم تضبط أوتارها جيدا»؟ أخذ «عثمان يقترب من مصدر الصوت، وهو يتلمس الحائط، حتى وصل إلى باب كان الأقرب إلى مصدر الصوت، فاستنتج أنه باب المنزل الذي تعزف فيه تلك الآلة. وأخذ عثمان يطرق الباب صائحا «يا هذا لا أعرف ماذا تعزف، ولكنك لم تضبط الأوتار جيدا».
اللقاء
رأى بتهوفن منظرا غريبا، فعلى مسافة قريبة منه رجل ذو ملابس غريبة وقبعة طويلة مثيرة للدهشة يطرق بابا ويصيح. واستولى الفضول على عقله، فاقترب من الرجل قائلا:
إنك تطرق الباب في ساعة متأخرة.
وأين المشكلة؟
إنك تزعج الناس.
إنه يعزف بصوت عال، وطرقي للباب أقل حدة من عزفه.
أخذ عثمان يطرق الباب بطريقة موسيقية ومن الواضح أنه مستمتع بالأمر، فقاطعه بتهوفن:
من الواضح إنك مستمتع بكل هذا، ولكنك تلح.
استدار عثمان باتجاه بتهوفن ضاحكا، ولكن بتهوفن لاحظ سريعا أن عثمان لا يحدق به تماما، بل باتجاهه تقريبا، ما جعله يعتقد أنه يتخيل كل هذا. ولكنه سريعا ما تيقن أن الأمر برمته حقيقة، ما جعله يتشوق لمعرفة هذا الرجل الغريب. انفتح شباك من الطابق الثاني وظهر رجل كبير في السن وهو يصيح:
من هناك؟
فأجاب «عثمان» بصوت عال
عزفك لا بأس به، ولكن الأوتار غير مضبوطة.
إنه بيانو قديم، ولا أجيد ضبط أوتاره، ولا أملك المال لجلب من يضبطها.
استدار عثمان باتجاه بتهوفن سائلا إياه:
لا أعرف شيئا عن هذه الآلة المسماة «البيانو». هل تعرف شيئا عنها.
تسألني أنا هذا السؤال؟
لِمَ لا؟
سؤالك يغضبني، ولكني أعرف كل شيء عنه.
إذن تستطيع ضبط الأوتار.
طبعا.
حسنا، كن لطيفا وساعد الرجل.
ولماذا أقوم بذلك.
كن لطيفا مع صاحب البيانو الفقير ومعي. هيا.. إن مساعدة الناس شيء لطيف.
حسنا، ولكن هناك مشكلة.
مشكلة؟ ما هي؟ قد نستطيع حلها معا.
لديّ مشكلة في السمع، فقد لا أجد مشكلة في التحدث إلى شخص قريب مني.. ولكن ضبط الأوتار يحتاج إلى حاسة سمع خاصة.
هذا ما أملكه أنا (ضاحكا).
نظر عثمان إلى الأعلى وصاح بصاحب المنزل:
سنقوم بضبط الأوتار لك.. افتح الباب!
لكن صاحب المنزل فاجأه
لا أملك مالا لدفع أجوركم.
مالا؟ إننا نساعدك فقط يا رجل، إن الموسيقى أهم من المال.
حسنا إنني قادم لفتح الباب.
بعد انتظار لم يطُل فتح صاحب المنزل الباب، ودعا الرجلين للدخول.. دخل بتهوفن، ولكنه لاحظ أن «عثمان بقي في مكانه، فسأله بتهوفن:
لماذا لا تدخل إنك صاحب هذه الفكرة في هذه الساعة المتأخرة.
أين أدخل؟ إنني لا أرى شيئا. إنني أعمى، أم أنك لم تلاحظ ذلك حتى الآن؟
كان لهذا وقع الصاعقة على بتهوفن وصاحب المنزل، فلم يلاحظا أنهما كانا يتكلمان مع رجل أعمى. وقام الرجلان بمساعدة عثمان للصعود إلى الطابق الثاني. واستغرب بتهوفن من كون عثمان مبتسما طوال الوقت، حتى إنه بدا وكأنه على وشك الرقص. ولم يدرك بتهوفن أن عثمان كان في أشد الحماسة لمعرفة هذه الآلة الموسيقية المسماة بيانو.
دخل الثلاثة غرفة جيدة الإضاءة بالشموع، يتوسطها بيانو كبير، وانكب بتهوفن على العمل لضبط الأوتار، وكان عثمان يدله متى يكون الصوت في أفضل حال، حتى ضُبِطَ كل وتر وانتهى العمل. ضحك عثمان قائلا:
اود من صاحب المنزل أن يسمح لي بعزف شيء ما على هذه الآلة.
تفضل.
أرجو من أحدكما أن يساعدني على الجلوس أمام الآلة.
ساعده بتهوفن على الجلوس ببطء، تحسس عثمان مفاتيح الآلة وجرب كلا منها، وإذا به يبدأ بالعزف، وسرعان ما عزف قطعة موسيقية خفيفة أثارت دهشة مستمعيه. وعند انتهائه من العزف شكر عثمان صاحب المنزل بلطافة مبالغ فيها ثم قال:
أتمنى أن أشكر الصديق الذي كلمني في الخارج وساعدني في هذه المهمة
ما اسمك؟
لودفيك فان بتهوفن.
أنا عثمان الموصلي.
قاطعهما صاحب المنزل
بتهوفن؟ الموسيقار الشهير؟
ابتسم بتهوفن بغرور، فصافحه صاحب المنزل بحرارة ثم أمسك بيد عثمان معبرا عن امتنانه، وأبدى عثمان بأدب جم رغبته في المغادرة.
خرج عثمان وبتهوفن من المنزل وأخذا يسيران في الشارع، فقال عثمان:
أين عمر؟
أي عمر؟ لم يكن هناك أحد معك عندما رأيتك في الشارع.
كيف تركني هذا الرجل وحدي؟ كيف سأعود إلى منزلي؟
أين تسكن؟
منزلي ليس بعيدا من مركز مدينة إسطنبول.
إسطنبول؟ أنت في فيينا؟
فيينا؟ عاصمة النمسا؟ هل تمزح معي؟ أين أنا؟
إنك في فيينا. إنك في الإمبراطورية النمساوية.
إذا كنت في فيينا كما تدعي، فكيف أفهم كلامك؟ إنني لا أتكلم النمساوية.
تقصد الألمانية، النمساويون والألمان يتكلمون اللغة نفسها. ولكني ألماني.
ما هذا الهراء. إنني أعمى ولا طاقة لي لكل هذا. أريد العودة إلى المنزل.
اسمع لماذا لا تقضي الليلة في شقتي ونتدبر أمرنا غدا صباحا؟
حسنا، ولكني قلق من كل هذا.
هل أعجبك البيانو؟
جدا.
لدي بيانو ممتاز في شقتي.
حسنا.
سار الاثنان في أزقة فيينا ببطء وكان بتهوفن، مستمتعا بالحديث مع هذا الشخص الغريب الأطوار. وعندما دخلا شقة بتهوفن طلب منه عثمان، أن يأخذه في جولة سريعة فيها كي يعرف تفاصيلها، فسأله بتهوفن:
هل ستتذكرها؟
نعم، أظن ذلك.
وكان له ما أراد وسرعان ما حفظ عثمان الشقة الصغيرة بتفاصيلها.
استيقظ عثمان باكرا صباح اليوم التالي، واتجه متلمسا طريقه ببطء نحو البيانو حتى وصله وقف وهو يتحسس سطحه.
دخل بتهوفن الغرفة، وكانت هذه المرة الأولى التي تسنح له الفرصة النظر في وجه عثمان، وشعر بالصدمة لما رآه، فقد كان وجه «عثمان» مغطى ببقايا بثور مرض الجدري. واستجمع بتهوفن توازنه بسرعة وقال:
تبدو تواقا إلى العزف على البيانو.
صحيح.
جرّب حظك. وللعلم أن نوتة مقطوعتي لعرض مساء اليوم أمام المقعد. أقرأ النوتة وحاول عزفها وقل لي رأيك بها.
بتهوفن، إنني أعمى. هل نسيت ذلك؟
آسف، سأساعدك على الجلوس على المقعد المواجه للبيانو.
قام بتهوفن بمساعدة «عثمان» على الجلوس. وبدأ الموسيقار الأعمى بتحسس المفاتيح لفترة قصيرة ثم عزف مقطوعة موسيقية مرحة. استمع «بتهوفن إلى المقطوعة باهتمام بالغ. وما أن انتهى عثمان من العزف حتى علق بتهوفن:
عثمان إنك موسيقي عظيم، فلا أحد يستطيع تعلم العزف على البيانو بهذه السرعة، لاسيما بالنسبة إلى شخص يعاني من مشكلتك، مع احترامي الشديد.. إنك عبقري.
إنني أجيد عزف جميع الآلات المستعملة في إسطنبول.
إذن أنت من إسطنبول، وتتكلم اللغة التركية.
كلا، إنني من الموصل ولغتي هي العربية.
الموصل؟ لم أسمع عنها سابقا.
والآن تعرفها، وتعرف أحد أشهر من أتى منها.
لم يكن بتهوفن متعودا على الابتسام، إلا انه لم يستطع مقاومة الابتسامة، فكان جليا له أنه أمام شخص غير عادي، وقال،
لماذا تخفي مشاعرك يا عثمان.
ماذا تقصد؟
إن المقطوعة التي عزفتها تبدو مرحة جدا، ولكنها في الواقع حزينة. إنك تخفي آلامك بمظهرك المرح.
فقط موسيقار عظيم يستطيع اكتشاف ذلك.
شعر بتهوفن بالخجل لهذا الأطراء المقبل من شخص أتى من عالم آخر وحضارة لا يعرف عنها شيئا.
لماذا تشعر بالألم يا عثمان؟
أنظر إليّ جيدا، إنني أعمى وأريد أن أرى العالم الذي أعيش فيه. إنك تستطيع أن ترى ما يحلو لك من النافذة، أما أنا فلا استطيع سوى سماعه، وهذا جزء تافه من العالم. وكان آخر ما أتذكر رؤيته والدتي وهي تبكي لعدم قدرتها على إنقاذي من لعنة هذا المرض الذي أفقدني بصري ونظارة بشرتي. وانظر إلى شكلي! هل تظن إنني لا أعرف كيف أبدو؟
العالم الذي نعيش قبيح ولا يستحق أن يراه المرء.
أظن أنك تميز ما يثير غضبك وتتجاهل ما يسعدك فيه. لا ترتكب هذا الخطأ، عزيزي بتهوفن.
وأضاف عثمان:
بتهوفن هناك من يطرق الباب.
أسرع بتهوفن ليرى من الطارق. وسمع عثمان حديثا لم يميزه بين بيتهوفن وشابة. وعندما عاد بتهوفن بادره عثمان:
كان ذلك صوت الموسيقى.
أي موسيقى؟
إنني اتكلم عن صوت الفتاة يا بتهوفن.
عفوا، لم أفهمك، إنها شابة من فيينا تريدني أن أكون مدرسها للموسيقى.
صوتها رائع، هل هي جميلة؟
أظن ذلك.
تظن ذلك؟ عديم البصر متأكد من جمالها والمبصر «يظن» إنها جميلة.
حسنا، إنها جميلة فعلا.
وهل ستدرسها؟
كلا.
لماذا؟
ليس لدي متسع من الوقت.. موسيقاي أهم بكثير بالنسبة لي.
وعلا الغضب وجه بتهوفن وقال والألم يعصر قلبه:
كما أنها بالتأكيد مثل بقية الفتيات، إنني بالنسبة لهن عبارة عن موسيقي كبير، ولكنني في الوقت نفسه لست رجلا في نظرهم، فكم توسلت إلى خالقي أن تعجب بي إحداهن، ولكن هذا لم يحدث. وكم بكيت لذات السبب. وكم أكرههن كذلك لهذا السبب.
شعر عثمان أن بتهوفن ينهار أمامه:
بتهوفن لا تكرههن، فلن تستطيع التعامل مع امرأة إذا سيطر الحقد عليك. اصبر!
لقد صبرت بما فيه الكفاية، ولكني لست مهما في أعينهن، فلست وسيما أو غنيا. ولديّ الآن مشكلة جديدة، ألا وهي سمعي الذي يضعف شيئا فشيئا. إنني أموت في داخلي بين جدران هذه الشقة الصغيرة البائسة.
حاول التخفيف عن نفسك. حاول!
إنك لا تعرف الحمقى الذين أتعامل معهم، من مساعدين وعازفين وحتى أمراء لرعاية عملي الموسيقي. جميع هؤلاء الأمراء يظنون أنهم مهمون. ولا يعلم هؤلاء أن الأمراء كثيرون، ولكنْ هناك بتهوفن واحد فقط.
إنهم مهمون جدا، فهم الراعون. وعليك احترامهم.
غيّر بتهوفن مجرى الحديث وعبّر عن رغبته في الذهاب إلى قاعة العرض لبدء الاستعدادات للعرض الكبير اليوم وعرض على عثمان أن يصاحبه كي يحضر العرض. وقبل عثمان على الفور.
لم يكن بتهوفن مخطئا حيث كانت الفرقة دون المستوى المطلوب، والقاعة باردة، ولكن السيمفونية الخامسة أرعبت عثمان بروعتها، لاسيما بدايتها، ولكن عثمان لم يستطع مشاهدة الجهد الهائل الذي بذله بتهوفن خلال العرض، أنهك العرض قوى الموسيقار الكبير.
خرج الاثنان من القاعة مع حلول الظلام وقررا السير إلى شقة بتهوفن التي لم تكن بعيدة. وقال بتهوفن:
ما رأيك في العرض يا عثمان.
لم يكن رائعا، لأنه كان أكثر من ذلك.
صحيح؟ لم تكن الفرقة جيدة.
لم تكن جيدة, وكانت السمفونية من نمط لم يألفه الجمهور. ولكن التاريخ سيخلدك، فقد كانت البداية بشكل خاص فوق مستوى العقل البشري، إنك الأعظم.
لم يصدق بتهوفن ما سمعه، ونظر إلى عثمان غير قادر على التعبير عن شكره الجزيل، وقال:
إنك لا تقل عظمة.
عزيزي بتهوفن، إنني موسيقي أيضا، ولكني محلي في منطقة في العالم تتضاءل أهميتها سينساني العالم قريبا. أما أنت فإنك الأعظم في حضارة تزداد بروزا كل يوم، ولذلك سيعرف كل العالم أن أعظم من ألف الموسيقى كان بتهوفن، وسيكتب عنك الكثيرون، ويحاول تقليدك كل من يهتم بالموسيقى.
واستمر الاثنان في سيرهما حتى وصلا إلى الشارع نفسه الذي التقيا فيه للمرة الأولى، وكان الضباب بالكثافة نفسها. وسمع الاثنان شخصا ما من داخل الضباب يصيح:
الملا عثمان، الملا عثمان، أين أنت؟
وميز عثمان صوت تلميذه وصديقه عمر فقال:
إنه عمر يناديني. يجب أن أعود.
وأصيب بتهوفن بالذعر
تعود إلى أين؟ ابق معي! أنت في عاصمة الموسيقى العالمية، ونستطيع عمل الكثير معا.
كلا يا عزيزي. يجب أن أعود إلى أشقائي وأصدقائي وتلامذتي. كما أنني أريد أن أتزوج وأكون عائلة.. وهذا ما عليك أن تفعله يا بتهوفن.
ابق معي، فأنت صديقي الوحيد.
سيكون لديك أصدقاء كثيرون إن أردت أن تكون حكيما وحليما مع من حولك، ولا تكن حقودا تجاه أحد لاسيما الفتيات. وداعا، فعليّ اللحاق بعمر.. الوداع.
استدار عثمان نحو مصدر الصوت وتوجه إليه مسرعا، وبتهوفن يراقبه يبتعد والألم ينهك جسده، فقد عاد إلى وحدته البائسة.
باحث ومؤرخ من العراق