
عبده خال*
لا قبر يتسع لدفن ( الكلام) ومن الاستحالة فعل ذلك.
فلتكن نعوش أحاديثنا نجوما يتسع لها الكون ، هناك فقط هناك سوف تشع لتدلنا على الطريق الناجع لفهم الوجود كما فعلت الاسطورة في البدء.
** **
علاقة البشرية بالاسطورة علاقة بدات بالخلق الاول وظل ذلك الخلق ناثرا بذور وجوده عبر الديانات المتوالية الى أن بلغ العلامات الكبرى لانتهاء البشرية من خلال علامة الدابة وفق المفاهيم الأدبية لاسطرة الواقع في المفهوم الاسلامي.
ولهذا أجد نفسي مرددا أننا بقايا أساطير نسكنها وتسكننا.
وحين امنت بتلك المقولة أخذت أتلمس وجودها في حياتنا فإذا بها تغلف كل شيء كمحيط وتتغلغل في ممارساتنا كمرتكز سلوكي انتجته اساطير موغلة في الزمن نمارسها من غير ان نستبين أنها بقايا فعل اسطوري اندثر كعبادة وتحول الى سلوك.
وأجدني منساقا لتعريف الثقافة بأنها كل فعل او قول ترسب داخل المجتمع وتحول الى سلوك أو ايمان يمارسه الفرد من غير فحص او مراجعة .
واذ ولجنا من هذا الباب فسوف نجد ان الاسطورة تسكننا ونسكنها كإيمان وسلوك،كفعل لانعرف مصدره .
كانت البداية من تلك الطفولة الاولى .
في قرية استرخت على حواف واد ضخم،ومن أسرة مزارعة تعرف تفاصيل الارض بما يخرجه باطنها من ثمار،كان على أفرادها تعلم اوجاع الحقول ومداواتها قبل ان تنعكس على حياتهم.
ومن الطفولة الاولى وقفت على الارض الخسئة والمرتوية والجدباء والمشققة والضامئة والمغبرة،فالارض كائن يحزن ويفرح وعلى الفلاح التعامل مع كل حالة من حالاتها وفق ظرفها مستجلبا كل الاساطير التي مضت عبر الزمن لكي يعيد إليها شيء من بهجتها .
فاذا تمدد القحط تغلغلت الفاقة بين الناس،اُستجلبت الاغاني لاحياء موات الارض،وهو فعل به استعادة لاسطورة النسر،ففي زمن غابر اختصمت الأرض والسماء،وامعانا في الخصومة قطعت السماء ماءها عن الارض،ومضت السنوات،وفي كل سنة يتضاعف ألم الارض باتساع رقعة الجفاف بها حتى لم يعد بها مكانا به ثمر او شجر،فماتت الحيوانات والطيور وهلك البشر،وازاء هذا الموات أشفق النسر على الارض وكائناتها فحلق عاليا صوب السماء وأخذ يغني لها ويستعطفها لأن تنهي خصامها مع الارض،ولحلاوة وطراوة وعذوبة غنائه تصفح السماء عن الارض وتسكب أمطارها،فتنبت الاشجار وتثمر بثمارها وتستعيد الارض بهجتها وتعود كائناتها تدب على سطحها .
في طفولتي الاولى كنت محظوظا اذ عشت داخل الاساطير كحكاية وكفعل،ولأن ذاكرة الطفل ذاكرة محلقة ومستفسرة منذ البدء،وقبل بلوغ الحلم اذ ان بلوغه يعني التكليف بحيث يكون الفرد قد تزود بما يجب ولا يجب بينما الطفولة السابقة هي اختراق مايجب ولا يجب .
في تلك الطفولة كان سؤالي لو أني سرت في خط مستقيم الى أين أصل.؟
لم يكن هناك من احد يجيب على أسئلتي الحائرة سوى أم –رحمها الله رحمة واسعة- لاتملك من المعرفة الا مايقال او ماتم تغذيتها به للاجابة عن الاسئلة الوجودية الضخمة سوى اساطير تتناقلها القرية لكي تسكت نهم الاسئلة المتقافز من ألسنة اطفالهن .
أجلستني امامها وقالت :
- لو انك سرت على وجهك –وستحتاج الى سنوات- فسوف تسقط في بحر الظلمات.
واقترن في مخيلتي بحر الظلمات بالليل .
ليل القرى دامس لاترى فيه ظاهر كفك،وأي ضوء شحيح قادم من مكان ماء سوء من فانوس او نجم في عمق السماء يخلق تخلات في ذهنية ذلك الطفل فيظنها جنا جاؤوا لازهاق روحه او خطفه الى الارض السابعة .
فالارض السابعة موجودة كاداة تخويف وان من يسكنها هم الجن ومن يتم خطفه ليلا لن يرى نورا أبدا اذ سيعيش داخل ظلمة ابدية .
وخلال ليالي السنة لانستطيع الابتعاد او السير في منحنيات القرية حتى اذ قدم رمضان تحولت الليالي المظلمة الى قطعة من ليل أمن،فالايمان المطلق بأن الله يصفد الجن والشياطين في رمضان يجعل المرء يسير من غير ان تنتابه الهواجس،فما يحدث في ليالي غير رمضان كان مثيرا للرعب بينما يحدث نفس الفعل في الليالي الاخرى يتحول الى رعب حقيقي .
لم تكن الحياة في القرية الا مجموعة من اساطير يتم بواسطتها تفسير كل مايحدث على أرض الواقع،ففي ذات صباح (ارتجت الارض) وتصايح الناس للحظات حتى اذ هدأت انتهى بهم الامر لاستذكار (أسطورة الثور) وعرفوا ان الثور قد تعب وأراد ان يريح احد قرنيه من الثقل الذي يحمله.
اسمي عبدالرحيم وقد تشكل هذا الاسم في صور عديدة بسبب الاسطورة.
ويحق لي ان أقول اني عشت الاسطورة وجدانيا وثقافة.
كل منا يجالس أمه أو أباه ويسأل كيف اختارا له اسمه واذا بدأ الحكاية تصل بك الى ماكان يحدث لك قبل ان تعلم شيئا .
روت لي الوالدة –رحمها الله رحمة واسعة – ان من سماني هو أخي الذي يكبرني اذ جاءها وقال لها :
- لو كان في بطنك ولدا فسميه عبدالرحيم .
وعبدالرحيم ولي من أولياء الله الصالحين له ضريح يزوره أهالي القرى وجعلت الذاكرة الشعبية من حركة قبره موعدا لقيام الساعة إذتذهب الى الاعتقاد ان هذا الرجل الصالح يتحرك قبره سنويا بمقدار شبر متجها للقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة،ويظل القبر يقطع المسافات حتى اذ وصل قبر عبدالرحيم الى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قامت الساعة ولهذا تجدهم يشجعون هذه الرحلة من خلال اهزوجه يترنمون بها سنويا او عند زيارتهم لقبره منشدين:
ياعبدالرحيم ياصابر اصبر
إن الله مع الصابرين .
وفي مرحلة تالية تاثر الاسم بطقس العادات إذ أن اهل تهامة يحورون كل الاسماء المنتهية باسم من أسماء الله الحسنى الى (عبده) بحذف الاسم او الصفة والحاق ضمير الغائب (الهاء) على الاسم لكي يتبارك صاحبه بجميع صفات وأسماء الله الحسنى. .
ولأني المنطقة كانت مغمورة في وعاء أسطوري خضع اسمي للتغير مرة اخرى إذ مرت طفولتي بامرأض عديدة بدءا بشلل الأطفال وتوالي أمراض عرفت في المنطقة كامراض إما ان يعبرها الطفل وإما أن تنتهي حياته داخل قبر صغير،وكثيرة هي النعوش التي كانت تخرج مع كل شوطة الى مقبرة القرية .
ولهذا كانت الوالدة –رحمها الله رحمة واسعة- تعدني كمشروع ميت عليه الاسراع بقطع أنفاسه اللاهثة قبل ان يستطيل به الالم أما هي فقد تدربت على الحزن بفقدان خمسة من أبنائها الذكور اودعتهم المقبرة في سنوات أعمارهم المختلفة،كان يشقيها رؤية هذا الطفل الذي يخوض غمار الامراض ويخرج منها مواصلا رحلته إلى مرض جديد،كان يشقيها ألمه،وقد تلقت نصيحة من إحدى جاراتها العارفات أن تقوم بتغير اسم ابنها لكي ينجو من الموت،وتم تغير اسمي (وهي النبزة التي لازمتني بقية حياتي إذ لا أعرف بسواها بين الاهل والاقارب).
** **
عرفت الجن مبكرا من خلال الحكايات ومن خلال الحياة اليومية،فليل القرى شديد الظلمة وقد قيل لنا ان اليوم مقاسمة بيننا نحن البشر والجن الذين يخرجون من مساكنهم في الليل ويعدون اليها مع أول ظهور للشمس ..
وثمة تحذيرات ان تذهب الى الاماكن الخربة ليلا اذ يمكن أن تخطفك الجن ولاتعود الى أهلك وتغلظ الوصية لفتيات الجميلات فلربما عشقها جني وجذبها بحيل الى الفضاء وخطفها وغاص بها الى سابع أرض،وهناك قصص كثيرة (لرجال ونساء) بأن الجن خطفوهم ولاتقف الحكاية عند هذا الحد بل تواصل سرد قصص هؤلاء المخطفين مع عودة البعض منهم في شرح ماحدث لهم.
وأهل القرى التهامية يؤكدون ان الجن يقاسمونهم حياتهم في اشياء كثيرة منها الاكل والشرب فلم نكن نتبول أو نستنجي بعظام أو جلود الحيوانات النافقة أو التبول على روث الحيوانات فهي غذائهم ولا ندعس على ظل،واذا هبت عاصفة وتطايرت الاوراق فان تطايرها يعني ان جنيا غضب ونادى على اهله بان ينفخوا معه لذر التراب في عيون البشر وكل ورقة طائرة هي مخبىء لجني يشارك في النفخ فلا يمسك بها انسيا.
والجانب المفرح والذي ينتظره القروي ان يمر به النبي الخضر،فالمحظوظ من عبره وحقق له احلامه،وحضور النبي الخضر يتمركز في باطن الاودية او بجورا الابار وفي ليلة القدر .
وكثير من القرويين يؤمنون بوجود (خاتم الاسم) وامكانية الحصول عليه. والخاتم في الذاكرة الشعبية هو خاتم النبي سليمان والعثور عليه يحقق لصاحبه كل الامنيات التي يريدها كما ان الباحثين عن الثراء لديهم اساطيرهم الاخرى وهي تتبع الثعابين وخاصة (ثعبان أبو جوهرة)،فهذا الثعبان يحمل جوهرة لاتقدر بثمن يحملها معه أينما ذهب وهي بمثابه عينيه اللتان يرى بهما فاذا وصل الى مكان وضعها وتحرك بحثا عن غذائه ومن رأى تلك الجوهرة عليه ان يضع فوقها (ضفعة ) بقرة ويهرب في الحال مغادرا قريته لمدة ثلاثة أيام ولو مكث فانه ميت ميت لامحالة.
وتواصل الاسطورة حضورها حتى في الموت،فهناك حيوان اسطوري يلقب بـ(النباش) هذا الكائن اذ تم ايذائه من أحد فانه يخرج اليه ليلا متوعدا اياه وصائحا به:
- حلالتي بك
وبعقب عقبك.
فاذا دنا او مات الموعود بالتهديد فإن على ابنائه او ذويه حماية قبره لثلاث أيام بلياليها والا قام الحيوان الاسطوري (النباش) بنبش قبر الميت واكله ميتا ..وتظل اللعنة تلاحق ذريته .
كثيرة هي الاساطير التي عشتها فحين يخسف القمر تقوم النساء بدق وقرقعة الصحون لكي ينبهن القمر بانه ظل طريقه وكذلك مع كسوف الشمس تقوم النساء بقلب المطاحن على وجهها اشارة الى انهم سيموتون جوعا لو اختفت الشمس كنوع من الاسترضاء وطلب الرحمة .
ولو أردت الاستمرار في ذكر السلوك الحياتي لابناء القرى فسوف يطول الامر خاصة اقرانها باسطورة ما حدثت في مكان ما من هذه المعمورة .
ولن اكون جازما باعادة كل سلوك الى زمنيته التي نشأ بها اذا ان أفعالنا هي ارث حكائي تناقلته الامم وادخلته في حياتها كسلوك تعبدي في البدء ومع تطاول العهد تحول الى سلوك حياتي ومعيشي يمارس من غير مرجعيته الدينية .
فالقروي لايمكن له ان يطفىء النار من غير ان يذكر اسم الله خشية من أذى قد يلحق به من اطفائه للنار وهذا مرتبط بالديانة الزردشيتية وابقاء النار مشتعلة كونها رمز للنور الاهي ..
وتسود كلمة (ناهي) على ألسنة بعض اهالي قرى تهامة بمعنى التأمين على ماتقول او الرضوخ لما تقول ويرجع الاستاذ حمزة علي لقمان في كتابه أساطير من تاريخ اليمن ان (ناهي) كان الاها يعبد في اليمن
وبسبب الوفرة المهولة للاساطير وانتقالها من حالة تعبدية الى حالة سلوكية أجدني دائم الترديد من أننا بقايا أساطير وهي جملة لازمتني وقتا طويلا،كملازمة تسجيل وتوثيق هذه الحكايا،وكلما انغمس في قراءة الاسطورة صادفني فعل ما او عبادة قديمة تحولت الى سلوك او عادة في حياتنا الراهنة.
وغدوت مستملحا المقاربة بين السلوك والبحث له عن مرجعية اسطورية إلا ان غزارة الاساطير وتبدل حالها من مكان الى اخر ينبهك لوجود معظلة فالاسطورة الاولى ولكونها لم تكن مكتوبة فقد غدت معرضة لزيادة والحذف من رواى لأخر،وغالبا ماتكون الاسطورة او الحكاية ذات جوهر واحد إلا أنها تحرف على لسان من يرويها أما استجابة لظرفه الاجتماعي أو الديني او وفق اهوائه وعدم انسجامه مع الرواية التى سمعها فتجده يضيف شيئا من عنده وهذه الزيادة عندما تنقل لشخص اخر ويقوم الأخير بسرد الحكاية فان زيادة الراوى الذي سبقه تصبح لبنة جوهرية من لبنات الحكاية وربما يقوم هو أيضا باضافة لبنة أخرى أو اسقاط حدث أخر وتنتقل الحكاية من مجتمع لأخر وفق هذه الزيادة أو النقص .
وهذه الخصلة لايسلم منها الوعى أو عدم الوعى فنرى أن جان دي لافونتين (1621- 1695) في مقدمته لحكاياته (حكايات من لافونتين استقى الكثير منها من حكايات ايسوب واراد لحكاياته ان تنتعش بلمسات منه تشع فيها الحيوية،والجدة والمرح فهو لم يكتف بمجرد كتابتها شعرا،بل اضاف جزئيات طريفة من عنده إلى التركيبة القصصية،كما اضاف عشرات الحكايات الاخرى التى تجعل منها وسيلة لقول الكثير مما اراد قوله على طريقته الخاصة وايضا نلحظ أن الاسطورة في تشكلها الاول كانت تكتب في قالب شعري وليس سردي وهذا يعيدنا الى ان الشعر اداة خانقة كونها تلتزم بشروط الشعر بينما السرد يمنح السارد فضاء اوسع من الفضاء الشعري واذا تحولت الاسطورة من بنيان محكم في الشعر فانها تتفلت في السرد وخاصة عندما تحولت الاسطورة الى ملك مشاع ترويها النخبة والعامة ،وقد اضر الرواة العاميين ببناء الاسطورة ضررا كبيرا من حيث الزيادة والنقصان وتكيف الاسطورة على واقعهم المعاش .
كما ان وجود الدين جعل الاسطورة تنسلخ من كونها حكاية الهة الى كونها حكاية للبشر ولهذا نلحظ ان الاساطير التي تم روايتها بعد دخول الاسلام تحريفا اساسيا فالاله يتحول الى ملك والهة الشر تتحول الى جن ونلحظ أيضا ان الاله المغضوب عليه بالمسخ من قبل الاله الاكبر يتم تكيف هذا بان ساحرا قام بفعل المسخ .
ومن الصعوبة بمكان –بالنسبة لي – أن تجد بناء موحد لأي اسطورة إذ تتحول الى شظايا من الحكايات المتناثرة والتي يتقاسمها البشر كحكايات او كافعال غاب بنائها الحقيقي وتوالدت منها الالاف الحكايات ميزتها الحقيقية انها باقية وانها عبرت الزمن ولازالت باقية.
—
*قاص وروائي سعودي
*الجزء الاول من الورقة التي ألقيتها في مركز الشيخ ابراهيم بن محمد ال خليفة