
الياس خوري
عام 1982 أقفل مستشفى العصفورية للأمراض النفسية. أقيم هذا المستشفى سنة 1896 على «تلة العصافير»، في منطقة الحازمية، المشرفة على بيروت. وتحوّل اسم العصفورية إلى كناية عن الجنون، في اللغة اليومية للبنانيين وعرب المشرق.
كان إقفال هذا المستشفى تعبيراً عن حجم الكارثة التي دخلها لبنان في حربه الأهلية، وعن رعونة الميليشيات التي لم تراع حرمة لشيء، فاكتشف المرضى أنهم يعيشون في بلد أحمق، تعامل معهم بشكل طائفي، ودمر حيواتهم.
أسس هذا المستشفى المبشر السويسري ثيوفيلوس فالدماير، الذي ينتمي إلى جماعة «الكويكرز»، وهي الجماعة نفسها التي أسست مدرسة «برمانا هايسكول» في لبنان، ومدرسة «الفرنْدز» في رام الله – فلسطين.
أراد فالدماير للمستشفى أن يكون لا طائفياً، في منطقة دمرتها الحروب الطائفية، ونجح في ذلك، لأن «الكويكرز» كانوا طائفة اللاطوائف، ولا يزالون كذلك، رغم أن عددهم في لبنان ضمُر بحيث لم يعد يتجاوز عدد أصابع اليدين.
معاناة هذا المستشفى، الذي كان مدرسة للطب النفسي يتدرب فيه طلبة علم النفس في الجامعة الأمريكية، مع محيطه خلال الحرب الأهلية، كانت مخيفة في وحشيتها؛ فلقد تحولت التلة التي اشتهرت بعصافير الحسّون إلى مرتع للحماقات الطائفية. «لقد جننوا المجانين»، كما روى ممرض كان يعمل في المستشفى.
عام 1982 أقفل المستشفى وتشرّد المرضى في سياق تطييف الطب النفسي. فكما قسموا الجامعة اللبنانية إلى جامعتين، تم توزيع المرضى على مستشفيين، «دير الصليب» للمسيحيين، ومستشفى «دار العجزة الإسلامية» للمسلمين. أما من لم يجد من المرضى من يرعاه عائلياً وطائفياً، فقد انتهى به المطاف في سجن رومية، حيث تعرض للضرب الوحشي والمعاملة اللاإنسانية.
حكاية العصفورية لم تنته بإقفاله عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، بل أخذت منحى آخر مع مشاريع الإعمار التي بدأت بعد نهاية الحرب. فقد امتدت شهية «سوليدير» إلى المكان، وجرى التخطيط لمشروع يقوم على تدمير أبنية المستشفى الستة والأربعين، كي يقام مشروع إسكاني فخم، أطلق عليه اسم «قرية بيروت». ولأن القيمين على المشروع لا يناسبهم أن يعرف سكان هذه القرية أين يقيمون، فقد تقرر محو كل أثر لمباني المستشفى التراثية التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن التاسع عشر.
صارت العصفورية اليوم جزءاً من تراث المحو المستمر لتاريخ لبنان. المكان الذي شهد مأساة مي زيادة، والمستشفى الذي عالج حالات عدد كبير من المغتربين إلى الأمريكيتين، الذين فشلوا في هجرتهم وعادوا للعلاج في بلادهم، تم محوه اليوم بفضل عصابة حاكمة، مهمتها الوحيدة تدمير كل شيء.
لن نبكي على أطلالنا في لبنان، لأن كل شيء في بلادنا تحول ركاماً، وصار على عدد كبير من اللبنانيات واللبنانيين الهجرة كي يتعالجوا من مرض نفسي اسمه الوطن.
مرضنا لم يعد الحنين كحال أسلافنا من المغتربين، بل كيف نتعايش مع هذا الألم الذي لم يترك لنا مجالاً لحنين، لأن آلة التدمير مستمرة وتقوم في كل يوم بقضم جزء من بلادنا.
كان هذا المستشفى أحد الاستثناءات القليلة للطائفية، وهي الاستثناءات التي جعلت من لبنان مكاناً صالحاً للعيش وللحلم.
أما وقد نجحت الطبقة المسيطرة في تدمير أكثرية الاستثناءات، فلقد فُقدت المسافة بين الصحة والمرض النفسي.
طبقة يتميز أفرادها بالخمول والنذالة، وصل بهم جنون العظمة إلى العماء الكامل؛ فهم لا يستطيعون أن يروا أنهم يحكمون مزبلة.
لقد أفلت جنون العظمة من عقاله. أراد هؤلاء الحمقى تجنيننا بالفقر والبهدلة اليومية، فأصيبوا هم بلوثة الجنون.
سوف يسجل التاريخ أن إغلاق مستشفى العصفورية سنة 1982 حوّل لبنان كله إلى عصفورية.
لقد أفلت مجانين السلطة من أي رقابة، سرقوا ونهبوا وما شبعوا. واتخذ جنونهم شكلاً غرائبياً عندما حولوا السلطة إلى كاريكاتير مضحك ومبكٍ.
أنظروا إلى حال هذا الصراع الذي يدور من أجل تدمير القضاء، عبر شلّ التحقيق في جريمة المرفأ. أو انظروا إلى مسلسل رياض سلامة- غادة عون- عماد عثمان، وشركائهم.
انظروا إلى رمز الهيلا هوب جبران باسيل وهو ينحني أمام إسرائيل في حكاية ترسيم الحدود البحرية، كي تُرفع عنه العقوبات الأمريكية.
حليف المقاومة الإسلامية، يأخذ عمه الرئيس إلى التنازل أمام العدو، من أجل مقعد نيابي في مدينة البترون!
حفلة من الجنون لم تنته بانسحاب الحريري من الحلبة تلبية لأمر صاحب الأمر السعودي، أو بمشاركة حزب الله النشطة في المفاوضات النووية الأمريكية الإسرائيلية، أو بتحول سمير جعجع إلى الحليف الأول للسعوديين والخليجيين الذين هم حلفاء إسرائيل!
حالة الجنون مستمرة منذ أن دمروا مباني العصفورية، وطردوا العصافير من تلّتها، كي لا يبقى في أسماعنا سوى نعيق غربان الإفلاس والتهديد بالحرب الأهلية.
هذه الأصوات التي تطفو فوق خرابنا ليست سوى أصداء للنعيق الذي يحتل المشرق العربي، من فلسطين التي يتلهى سادتها بتعيين المنسق الأمني قائداً، إلى سوريا التي تنهشها الوحوش المتصارعة على حطام شعبها، إلى العراق المبتلى بطوائف الصراع الإقليمي، إلى آخر ما لا آخر له.
غير أن النعيق اللبناني هو أكثرها وحشية، لأنه يتغطى بديمقراطية مخادعة، وبحفلة نهب لا مثيل لها في العالم.
«كان مرضى العصفورية أكثر عقلانية من الميليشيات الهائجة التي حاصرتهم»، هكذا روى أحد الممرضين. ففي قصة العصفورية كَمُنتْ ملامح المرض الذي كان في انتـظارنا.