في الوقت الذي كانت تتطلع فيه روسيا إلى تراجع قوة الاتحاد الأوروبي وتماسكه، باعتباره قوة سياسية واقتصادية مواجهة لها، وتراهن على حدوث انقسامات غربية- غربية بشأن التعامل مع أزمة أوكرانيا، جاء قرار موسكو بحشد قواتها العسكرية على الحدود مع أوكرانيا بنتائج لم تكون مقصودة تماما، حيث عزز الشعور بالحاجة إلى الوحدة بين دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تختلف فيما بينها بشأن قضايا الأمن والمخاطر التي تواجه هذه الدولة أو تلك.
ومع ذلك فإن مدى استمرار حالة التماسك والشعور بالوحدة لدى دول الاتحاد أمر مختلف تماما، بحسب المحلل السياسي الفرنسي ليونيل لوران.
ويضيف لوران في تحليل نشرته وكالة بلومبرج للأنباء أن النبأ السار بالنسبة لأوروبا هو أنه في حين لم يكن للاتحاد الأوروبي حضورا واضحا ولا صوتا مسموعا ولم يستطع أن يحجز لنفسه مقعدا على مائدة روسيا والولايات المتحدة في هذه الأزمة، ساعدت الدبلوماسية المكوكية لكل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولف شولتس في تشكيل موقف غربي موحد لردع روسيا من خلال العقوبات ودعم أوكرانيا.
وبالطبع فإن الضغط الأمريكي على روسيا يتواصل، وبريطانيا تعهدت بوقف تدفق الأموال القذرة من روسيا، لكن رغبة فرنسا وألمانيا في تبني موقف أشد صرامة بعد سنوات من الحوار أحادي الجانب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمثل تحولا مهما في الموقف الأوروبي.
وفي حوار مع صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية قال وزير خارجية فرنسا جان إيف لو دريان إن "بوتين حاول خلق حالة انقسام بيننا، لكن المحاولة فشلت ولم يحدث الانقسام".
ويقول لوران المتخصص في الشؤون الأوروبية إن هذا التطور على الصعيد الأوروبي لا يأتي على هوى بوتين، حتى وإن كان يستمتع الآن بحالة الغموض والارتباك التي خلقها في المنطقة. فالاتحاد الأوروبي صاحب المواقف الحاسمة والطموحة، رغم استمرار إيمانه بالحلول الدبلوماسية للأزمة الحالية، سيجعل من الصعب على الرئيس الروسي إثارة المزيد من الفوضى.
ويقول إميلي زيما الأستاذ في جامعة باريس 2 إن المظلومية البالية للرئيس بوتين بشأن تمدد حلف شمال الأطلسي (ناتو) نحو ما كان فناء خلفيا لروسيا في عصر الحرب الباردة خلقت ما يعرف باسم "لحظة راشمون" التي تشير إلى تأثير الذاتية على إدراك الأحداث، بعيدا عن البيانات الصادرة في 1990 وأخفت الدور المركزي الذي لعبه الاتحاد الأوروبي الذي أزعجت جاذبيته لدول شرق أوروبا الرئيس الروسي.
في المقابل فإن التوازن الذي تبنته أوكرانيا على مدى العقود الماضية بين كل من روسيا والغرب أكد ذلك. ففي عام 2013 فجر رفض كييف الأولي لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي( دون الانضمام إليه) احتجاجات سياسية في البلاد وقامت روسيا بالاستيلاء على إقليم القرم الأوكراني ونشوب صراع أهلي في إقليم دونباس.
ومع ذلك يمكن القول إن الثقل الاقتصادي الذي لا نقاش فيه للاتحاد الأوروبي لا تقابله قوة عسكرية موازية خاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. كما أنه لا يستطيع الجمع بين التوسع الأفقي لحدوده وتعميق التكامل بين الدول الأعضاء في ظل الخلافات الداخلية حول عراقيل الديمقراطية والتزامات حلف الناتو. وكانت النتيجة أن الاتحاد يبدو ضعيفا عندما يضغط عليه أمثال بوتين، كما ظهر في استخدام تكتيكات "الحرب الهجين" في أزمتي بيلاروس وأوكرانيا.
ويحذر لويونيل لوران من أنه في حين تتحول لحظات الخوف الشديد إلى جرس تنبيه، فإن هناك ميل إلى الإغفاء مجددا بعد مرور هذه اللحظات. فالاعتماد المتزايد لألمانيا على الغاز الروسي يبدو أمرا خطيرا منذ نحو عقد. وحتى اليوم تعارض ألمانيا محاولات فرنسا تشجيع الطاقة النووية باعتبارها جزءا من عملية تنويع مصادر الطاقة في أوروبا. وعلى الصعيد العسكري، اتفقت دول الاتحاد الأوروبي في عام 1999 على تكوين قوة عسكرية أوروبية مشتركة. لكن هذه القوة لم تنتشر حتى اليوم.
وقبل أيام تبنى البرلمان الأوروبي تقريرين حددا مجموعة واسعة من المخاطر التي تواجه الاتحاد الأوروبي ومنها التغير المناخي والهجمات الإلكترونية والهجمات الفضائية والصراعات الحدودية، وطالب البرلمان الاتحاد بالحديث "بصوت واحد" من خلال الاستثمار في مشروعات عسكرية مشتركة وتسريع عملية صناعة القرار في قضايا السياسة الخارجية من خلال تقليص قدرة دولة واحدة عضو في الاتحاد على عرقلة صدور قرارات تؤثر على كل دول الاتحاد.
إذن، ورغم أن هذه المرحلة من الوحدة الأوروبي جيدة ومرحب بها، فإنها ستحتاج إلى المزيد من العمل الجاد لكي يتم ترجمتها إلى شيء أكثر استدامة. وفي وقت يتطلع فيه الاتحاد الأوروبي إلى "استقلال ذاتي استراتيجي" في كل شيء من أشباه الموصلات إلى تكنولوجيا الفضاء، مازال يواجه انتقادات بسبب عدم قدرته على تحقيق هذا الهدف.