
نجم الدراجي
أمي البعيدة..
أكتب لكِ هذه الرسالة بعبارات ملأى بالحزن، ولحظات بخيلة بالمسرة، أكتب بلهفة التوغل إلى أغوار أعماقك المشرقة..
ننسون ايتها الملكة العظيمة.. لاتقلقي كثيراً وأرجو ألا تفزعك كلماتي، وأتمنى أن تواصلي صلاتك وتشفعي لي عند (شمش) وصلي له من أجلي…
أيتها العارفة.. أود أن أخبرك بان ألواح الطين السومرية ما تزال أناشيدها تغنى، وموسيقاها تطرب في البيت المشرق المقدس في مدينتنا أوروك التي شيدها الحكماء السبعة.. الألواح كتبت عني: «لقد أوغل في الأسفار البعيدة حتى حل به الضنى والتعب».
أيتها البصيرة.. هذا ما حلّ بي قبل آلاف السنين، والدهشة كل الدهشة بتكرار القدر الذي أصاب لوحي المنقوش (الحلم) ويبدو أن ثمة معجزة حدثت كي يستفيق الحلم الذي عجز الزمن عن التهامه..
أيتها المتبحرة.. أثناء حرب الخليج الثانية اختطف حلمي القديم من الوطن.. بلاد ما بين النهرين إلى بلاد بعيدة، وتشابكت على نقوشه أيادي سراق الحضارة عبر رحلة مشحونة بالقهر والسلب لثلاثة عقود من الزمن، وظل الحلم أسير المطامع يطاف به في مدن الغرب وآخرها مدينة لندن، ومن ثم اقتيد إلى أمريكا لتقرر محكمة مدينة نيويورك إعادة الحلم الكبير إلى موطنه الأصلي العراق.. عاد حلمي يشبه قصيدة عذبة على لسان شاعر أسطوري.. عاد للحياة منشداً حين نادته السماء..
الحلم يا أمي هو ظل الحياة، وربما يكون قلب الحياة حلما لكنها تخفي أسراره خوفاً من أن تتسلل انكسارات ضوء الحقيقة على أعماقه البعيدة، وقد يكون الحلم صورة مقاربة لأسلوب الحياة… هل تتذكرين يا سيدتي حين كنا نعتقد أن أحلامنا المستحيلة تنتظر حياة أخرى، وها قد تمثلت الحياة في البعض منها، حتى لامست أفق الإبداع الإنساني..
أيها المحارب الأسطوري جلجامش أقصص عليّ رؤياك مرة أخرى فقد طوقتني بحالة توق عميق لأستمع إليك لأتأمل من جديد العبارات الوجدانية التي حملها حلمك…
«يا أمي لقد رأيت الليلة الماضية حلما
رأيت أني أسير مختالا فرحا بين الأبطال
فظهرت كواكب السماء وقد سقط أحدها إليّ وكأنه شهاب السماء (آنو)
لقد أردت أن أرفعه لكنه ثقل عليّ
وأردت أن أزحزحه فلم أستطع أن أحركه
تجمع حوله أهل أوروك ازدحم الناس حوله وتدافعوا عليه
واجتمع عليه أصحابي يقبلون قدميه
انحنيت عليه كما أنحني على امرأة
وساعدوني فرفعته وأتيت به عند قدميك
فجعلته نظيراً لي».
كأن في تلاوة حلمك استعادة للزمن المفقود فشكراً لك على هذا البوح الذي مسني فأيقظ ذاكرتي.. في تلك الليلة السومرية البعيدة تخيلت حلمك يلهو بين الكواكب.. تخيلته لؤلوة عالقة على وجه السماء… كنت أنسج كلماته من وهج الخيال، وتمنيت ألا يلبس ثوب الحقيقة.. خشيت أن يستأثر الكابوس بالحلم… كنت أخاف عليه من السباحة بخياله بعيداً عن فلك أوروك حيث متاهات الأزمنة الصعبة… حتى ظننت أن تأكله السنون.. أيها الجميل يا رمز الحس الإنساني العميق.. لا شك في أن نبتة الحياة التي كنت تبحث عنها قد لامست حجر حلمك، والتصقت في كيان الأسطورة كل هذا الزمن الطويل، وهي التي منحته الحياة الأبدية.. يبدو أن الإنسان يحتاج إلى أن تغمره كثافة من اللاوعي حتى يدرك أن حلم الحياة أكثر وضوحا من الهياكل العارية.. وأظن أن نبتة الحياة قد ارتقت إلى بذرة حكمة الحياة، وقد غرست نفسها في أعماق نفسك الحالمة بالخلود.
أيها الملك.. لا شك في أن حلمك تحفظه قوة الأسطورة، وقد حملته أمواج السماء العالية إلى عالمك الأسطوري، واقترن بالحقيقة، وخلدته ألواح الطين، وما تعرض له من ظلم وقهر وتعب وهجرة قسرية، هو قدر هذه الأرض التي شوهتها الحروب وغمرها ألف طوفان..
تابعت ننسون صلاتها وتبتلها، ورفعت يديها إلى شمش وقالت: «علام أعطيت ولدي جلجامش قلبا مضطربا لا يستقر»…
كم من الأحلام عبثت بها الأوهام.. وأين هي الآن؟
يبدو ان حلم جلجامش ينادي ويبحث عن كل أحلام حضارات بلاد وادي النهرين، ويدعوها كي تعلن عن نصوصها، ولتتحرر من قيود السراق..
يفصح عالم الآثار إدوارد كييرا في كتابه الموسوم «كتبوا على الطين» الفصل الحادي عشر (البحث عن الحقيقة) عن نظرية ملهمة تستحق التأمل، وأرى فيها تفسيرا لفلسفة رحلة جلجامش في البحث عن نبتة الحياة «كانت رحلة جلجامش مملؤة بالمخاطر، لكنه استطاع أخيرا الوصول إلى الجزيرة، وتكلم مع نوح، وقص عليه هذا القصة الكاملة للطوفان. لقد وجد النبتة، لكنه عندما اجتاز الماء قي قاربه، برزت حية من الماء، وخطفت النبات النفيس منه وانسلت به واختفت».. ثم يتابع إدوارد كييرا تعليقاته: «من هذا نستنتج أنه إن كان للقصة مغزى، فهو أن الإنسان لا يستطيع أن يسرق الطعام الذي خصت به الآلهة نفسها وحدها. فالحية على ما يظهر كانت من الآلهة التي أمرت أن تنتزع من الرجل ما ليس له به حق». فأرجوكم لا تسرقوا ولا تستحوذوا على ما ليس لكم به حق.. اعيدوا لنا كل أحلامنا المنقوشة.. اعيدوا لنا نصوص وقيم الحياة، ونواميس الحضارة فهي لا تستحق النهايات العبثية.
كاتب عراقي